ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته. قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح، أشهر من : عيسى، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته. ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ؟ وهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لقب لا اسم.
قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا
٤٦٠
نكرة لأن فيه ألف تأنيث، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه، إذا ساسه وقام عليه.
وقال الزبمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء.
﴿وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ﴾ قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة. وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول. وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه. وقيل : الكريم على من يسأله، لأنه لا يرده لكرم وجهه.
ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بعلو درجته. وقيل : في بالدنيا بالطاعة، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه، وفي الآخرة في علية المرسلين. وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وقال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ معناه من الله تعالى. وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة. وقال قتادة : ومن المقربين عند الله يوم القيامة. وقيل : من الناس بالقبول والإجابة، قاله الماوردي. وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم، لأن فعل من صغ المبالغة، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه إنتهى. وليس فعل هنا من صبغ المبالغة، لأن التضعيف هنا للتعدية، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و: موّت الناس.
﴿وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ معطوف على قوله : وجيهاً، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين.
أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين، وأن عيسى منهم. ونظير هذا العطف قوله تعالى :﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ﴾ فقوله : وبالليل، جار ومجرور في موضع الحال، وهو معطوف على : مصبحين، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل، فلو جاء : ومقرباً، لم تكن فاصلة، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين، والتقريب صفة جليلة عظيمة. ألا ترى إلى قوله :﴿وَلا الملائكة الْمُقَرَّبُونَ﴾ ؟ وقوله :﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ﴾ وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة.
﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلا﴾ وعطف : ويكلم، وهو حال أيضاً على : وجيهاً، ونظيره :﴿إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـا فَّـاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ أي : وقابضات. وكذلك : ويكلم، أي : ومكلماً. وأتى في الحال الأولى بالاسم لأن الأسم هو للثبوت، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقد بالأسم. وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة. ألا ترى في الحال وصف في المعنى ؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. كقوله تعالى :﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَهُا﴾ فكذلك الحال، بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد، كما أن الأسم يشعر بالثبوت، ويتعلق : في المهد، بمحذوف إذ هو في موضع الحال، التقدير : كائنا في المهد وكهلاً، معطوف على هذه الحال، كأنه قيل : طفلاً وكهلاً، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكساً :﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ﴾ ومن زعم أن : وكهلاً، معطوف على : وجيهاً، فقد أببعد.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
والمهد : مقر الصبي في رضاعه، وأصله مصدر سمي به يقال : مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها، أي : وطأت، ويقال : أمهد الشيء ارتفع.
وتقدم تفسير : الكهل لغة. وقال مجاهد : الكهل الحليم، وهذا تفسير باللازم غالباً، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته، فلا يكون في ذلك كالشارخ، والعرب تتمدح الكهولة، قال :
وما ضر من كانت بقاياه مثلناشباب تسامى للعلى وكهول
ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي، وفي قوله : وكهلاً، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة، قاله الربيع، ويقال : إن مريم ولدته لثمانية
٤٦١


الصفحة التالية
Icon