:﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا﴾ الآية، ويحتمل أن يكون : واشهد، خطاباً لله تعالى أي : واشهد يا ربنا، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى، فليس كمقالهم فيه، ودعوى الإلهية له.
﴿رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ﴾ أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل أو بالإنجيل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ﴾ هو : عيسى على قول الجمهور.
﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ﴾ هم : محمد صلى الله عليه وسلّم وأمّته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، ومحمد صلى الله عليه وسلّم يشهد لهم بالصدق. روى ذلك عكرمة عن ابن عباس، أو : من آمن قبلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. أو : الأنبياء لأن كل نبي شاهد على أمّته. أو : الصادقون، قاله مقاتل. أو : الشاهدون للأنبياء بالتصديق، قاله الزجاج. أو : الشاهدون لنصرة رسلك، أو : الشاهدون بالحق عندك، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم، وعبروا عن فعل الله ذلك بهم بلفظ : فاكتبنا، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال.
﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ الضمير في : مكروا، عائد على من عاد عليه الضمير في :﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾ وهم : بنو إسرائيل، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه، إن شاء الله.
﴿وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكراً، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر، كقوله :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ وقوله ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
وقيل : مكر الله بهم هو ردّهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل.
وقال الأصم : مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى، فأخذوهم وعذبوهم، فسمع بذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانياً، ولم يظهر ذلك. ثمَ ولي ملك آخر بعدُ وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحوٍ من أربعين سنة، فلم يترك فيه حجراً على آخر، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز.
وقال المفضل : ودبروا ودبر الله، والمكر لطف التدبير وقال ابن عيسى : المكر قبيح، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام وقيل : مكر الله بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل، ومكرهم لزومهم إبطال دينه. والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية، وذلك غير ممتنع وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه، وسأل رجل الجنيد، فقال : كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول، ولكن أنشدني فلان الظهراني :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
ويقبح من سواك الفعل عنديفتفعله فيحسن منك ذاكاً
ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل.
﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ﴾ معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل، لأنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب، وقال تعالى :﴿وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلا﴾.
وقيل : خير، هنا ليست للتفضيل، بل هي : كهي في قوله :﴿أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يومئذ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا﴾ وقال حسان.
فشركما لخيركما الفداء
وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في : أحس، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس، بمعنى رأى، أو بمعنى : سمع منهم كلمة الكفر، فيكون : أحس، لا استعارة فيه، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن، وتسمية الشيء باسم ثمرته.
قال الجمهور : أحس منهم القتل، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر.
والسؤال والجواب في : قال ﴿مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ﴾ والتكرار في : من أنصاري إلى الله،
٤٧٢
وأنصار الله، وآمنا بالله، وآمنا بما أنزلت، ومكروا ومكر الله، والماكرين، وفي هذا التجنيس المماثل، والمغاير، والحذف، في مواضع.
﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ العامل في : إذ، ومكر الله قاله الطبري، أو : اذكر، قاله بعض النحاة، أو : خير الماكرين، قاله الزمخشري. وهذا القول هو بواسطة الملك، لأن عيسى ليس بمكلم، قاله ابن عطية :.