وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية، وبدأ به، ثم قال : ويجوز أن تكون للتبعيض وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الإشتغال، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الإشتغال ؛ فزيدٌ ضربته، أفصح من : زيداً ضربته، وإن كان عربياً، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه، لا موضع له من الإعراب، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف، ويكون : من الآيات، حالاً من ضمير النصب في : نتلوه.
وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك، بمعنى : الذي، و: نتلوه، صلته. و: الآيات، الخبر. وقاله الزجاج قبله، وهذه نزعة كوفية، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة، ولا يجوز ذلك عند البصريين، إلاَّ في : ذا، وحدها إذا سبقها : ما، الإستفهامية باتفاق، أو : من، الإستفهامية باختلاف. وتقرير هذا في علم النحو.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
وجوّزوا
٤٧٦
أيضاً أن يكون : ذلك، مبتدأ و: من الآيات، خبر. و: نتلوه، حال. وأن يكون : ذلك، خبر مبتدأ محذوف، أي : الأمر ذلك. و: نتلوه، حال.
والظاهر في قوله :﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ أنه معطوف على الآيات، ومن جعلها للقسم وجواب القسم :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ﴾ فقد أبعد.
﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ قال ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلّم في أمر عيسى، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا، وتقول : هو، عبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"وما يضرّ ذلك عيسى، أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه". فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا، فنزلت.
وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله فنزلت.
وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك، فقال :"كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وقولكما لله ولد. قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه. فأنزل ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ﴾ وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم :﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾.
وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال. وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله :﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ وفي هذا إقرار الكاف في قوله :﴿كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ على معناها التشبيهي.
وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول، من عيسى فهو كالمتصور من آدم، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل. وكذلك ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ عبارة عن المتصوّر منها.
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى. والكاف في ﴿كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ اسم على ما ذكرناه من المعنى. إنتهى كلامه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال. أو بمعنى الصفة، وفي (ري الظمآن) قيل : المثل بمعنى الصفة، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد، على هذا جل اللغويين والمفسرين، وخالف أبو علي الفارسي الجميع، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة، إنما المثل الشبه.
على هذا تدور تصاريف الكلمة، ولا معنى للوصفية في التشابه. والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور، ويقابل بها الأحوال. إنتهى.
ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل، كالشبه : والشبه. قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه، والتنبيه على عظم خطره وقدره.


الصفحة التالية
Icon