وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة. وقال بعضهم : مثل زائدة، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال. وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب، لأنه خالف المعروف، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان. وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ، كذلك خلق عيسى بلا أب، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل، وبين من ضرب له المثل، من وجه واحد، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات. والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب. وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين (آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين، و: في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا. وفي العبودية، وفي النبوّة. وفي المحنة : عيسى باليهود، وآدم بابليس، وفي : أكلهما الطعام والشراب، وفي الفقر إلى الله. وفي الصورة، وفي الرفع إلى بالسماء والإنزال منها إلى الأرض، وفي الإلهام، عطس آدم فألهم، فقال الحمد لله. وألهم عيسى، حين أخرج من بطن أمّة فقال :﴿إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ﴾ وفي العلم، قال :﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاسْمَآءَ﴾ وقال :﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ وفي نفخ الروح فيهما ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾
٤٧٧
وفي الموت، وفي فقد الأب، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر، وكيف هو. أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه.
والعامل في : عند، العامل في : كاف التشبيه، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقروا واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى، كما قال تعالى :﴿رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له. قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا : كان يحيي الموتى. قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص. قال : فجر جيس أولى لأنه طحن وأحرق، ثم قام سالماً. إنتهى.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت، وردّ الله نورها، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره.
وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به، فصار يبرىء الأكمه والأبرص، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه، وكان أعمى، فردّ الله عليه بصره.
﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ هي من تسمية الشيى باسم أصله. كقوله ﴿وَهُوَ يُحَاوِرُهُا أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم. كما قال :﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ مِن سُلَـالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ وقال تعالى :﴿إِنِّى خَـالِقُا بَشَرًا مِّن طِينٍ﴾ وقال :﴿قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾.
والضمير المنصوب في : خلقه، عائد على آدم، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل : هي في موضع الحال، وقدر مع خلقه مقدرة، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه. قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل. إنتهى كلامه. وفيه نظر، والمعنى : قدره جسداً من طين ﴿ثُمَّ قَالَ لَه كُن﴾ أي أنشأه بشراً، قاله الزمشخري، وسبقه إلى معناه أبو مسلم. قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء. لا بمعنى التقدير، لم يأت بقوله :﴿ثُمَّ قَالَ لَه كُن﴾ لأن ما خلق لا يقال له : كن، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى ﴿ثُمَّ قَالَ لَه كُن﴾ عبارة عن نفخ الروح فيه، وقاله عبد الجبار. فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره. قيل : أو يكون : كن، عبارة عن كونه لحماً ودماً، وقوله : فيكون، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة، وإنما ذلك على سبيل التمثيل، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر.
و : ثم، قيل لترتيب الخبر، لأن قوله : كن، لم يتأخر عن خلقه، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠


الصفحة التالية
Icon