ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء، بل تكفي المماثلة في شيء مّا، هذا الذي عليه أهل اللغة، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس، هذا اصطلاح منهم لا لغة. فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة، وهي كونه من بني هاشم، والعرب تقول : هذا من أنفسنا، أي : من قبيلتنا. وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له. وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلّم، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية، ووسع المجال فيها، فزعم أن الولي أفضل من النبي، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد، كما قصر ذلك الحمصي، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة. قال : لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة. وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام. نعوذ بالله من ذلك، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين، إلى أنه من أهل الصلاح، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه، فسئل عنه. فقال : فيه ما أخذته عن رسول الله، وفيه ما أخذته عن الله شفاهاً، أو شافهني به، الشك من السامع. فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله، وهو :﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى إِنِّي﴾ والله لم يشافهه بذلك، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة. والاستعارة في :﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ وفي :﴿فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ والتفصيل لما أجمل في :﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ﴾ بقوله : فأما، وأمّا، والزيادة لزيادة المعنى في ﴿مِّن نَّـاصِرِينَ﴾ أو : المثل في قوله ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ﴾. والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله ﴿نَتْلُوهُ﴾ وفي ﴿فَيَكُونُ﴾ وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في ﴿كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في ﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾. وخطاب العين، والمراد به غيره، في ﴿فَلا تَكُن مِّنَ﴾. والعام يراد به الخاص في ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا﴾ الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال، والحذف في مواضع كثيرة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين المختصمين، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى، وكونه مخلوقاً من غير أب، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، وغيرهم. أي : هذا هو الحق
٤٨١
لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلهاً أو ابن الله، ولا ما تدعيه اليهود فيه، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله ﴿وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ﴾ ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله : وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير : إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ الله. انتهى. لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في : لهو، دخلت على الفصل. والقصص خبر إن، والحق صفة له، والقصص مصدر، أو فعل بمعنى مفعول، أي : المقصوص كالقبض، بمعنى المقبوض، ويجوز أن يكون : هو، مبتدأ و: القصص، خبره، والجملة، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران، وغيرهم، في أمر عيسى وإلا هيته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨١
﴿وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ﴾ أي : المختص بالإلهية هو الله وحده، وفيه ردّ على الثنوية والنصارى، وكل من يدعي غير الله إلهاً.
و : من، زائدة لاستغراق الجنس، و: إله، مبتدأ محذوف الخبر، و: الله، بدل منه على الموضع، ولا يجوز البدل على اللفظ، لأنه يلزم منه زيادة : من، في الواجب، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلاَّ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ إشارة إلى وصفي الإلهية وهما : القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع، فلا يخفي عنه شيء. وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى.
ويجوز في : لهو، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص، وتقديم ذكر فائدة الفصل.