﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه، وكيف حال الشرائع في الموافقة. والمخالفة، وأنتم لا تعلمون ذلك، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم، وفي قوله : والله يعلم، استدعاء لهم أن يسمعوا، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : إسمع فإني أعلم ما لا تعلم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨١
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان، وبدأ بانتفاء اليهودية، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى، وكرر، لا، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين، ثم استدرك ما كان عليه بقوله ﴿وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا﴾ ووقعت لكن هنا أحسن موقعها، إذ هي واقعة بين
٤٨٦
النقضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل.
ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين، وهم : عبدة الأصنام، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم، وكالمجوس عبدة النار، وكالصابئة عبدة الكواكب، ولم ينص على تفصيلهم، لأن الإشراك يجمعهم.
وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح، فتكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها من قوله ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا﴾ وجاء : من المشركين، ولم يجىء : وما كان مشركاً، فيناسب النفي قبله، لأنها رأس آية.
وقال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية. وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفي نفس الملل، وقرر الحال الحسنة، ثم نفي نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً، بل حفظته. وما كنت سارقاً، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ. انتهى كلامه.
وتلخص بما تقدم أن قوله. ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ثلاثة أقوال : أحدهما : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود والنصارى والثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى.
وقال عبد الجبار : معنى ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا﴾ لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون. وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة.
وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا دمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى، وكونه مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم، بل كان على جهة الإسلام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨١
والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة، ويحج إليها، ويضحي، ويختتن. ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً. انتهى.
وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين، وأنه لقي عالماً من اليهود، ثم عالماً من النصارى، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب الله، ومن لعنته. فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا ؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً. قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وكان لا يعبد إلاَّ الله وحده، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء. وقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ونصاراه. لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن الله، وعزير ابن الله. لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول، وإن كان في الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى، وأما موافقته لشريعة محمد صلى الله عليه وسلّم فإن كان في الأصول فظاهر، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة.
﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا ا وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : والله يا محمد، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وإنه كان يهودياً، وما بك إلاَّ الحسد. فنزلت.