في موضع الصفة لطائفة، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم. وقال ابن عطية : ويحتمل : من، أن تكون لبيان الجنس، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ، ولو، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية، ولا يقول بذلك جمهور البصريين، والأولى إقرارها على وضعها. ومفعول : ودّ، محذوف، وجواب : لو، محذوف، حذف من كلَ من الجملتين ما يدل المعنى عليه، التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله :﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ فيطالع هناك.
ومعنى : يضلونكم، يردّونكم إلى كفركم، قاله ابن عباس. وقيل : يهلكونكم، قاله ابن جرير، والدمشقي. قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
كنت القذى في موج أخضر مزيدقذف الأتىّ به فضلّ ضلالا
وبقول النابغة :
فآب مضلُّوه بعين جليةوغودر بالجولان حزم ونائل
وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة، وإنما اطرد له، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم. إنتهى.
وقال غير ابن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء، إذا صار مستهلكاً فيه. وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم، قاله أبو علي.
﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ﴾ إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى. وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل.
وقال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنه يبعدهم عن الإسلام. وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم. إنتهى.
﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ إن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم. ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً، أو ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أنهم لا يصلون إلى إضلالكم، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج، ذكره القرطبي. أو : ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم، ذكره ابن الجوزي.
وفي قوله : ما يشعرون، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلّم، والإيمان به، كما بين في قوله :﴿يَجِدُونَه مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالانجِيلِ﴾ قاله قتادة، والسدي، والربيع، وابن جريح. أو : القرآن من جهة قولهم :﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ﴾ ﴿كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا إِفْكٌ﴾ ﴿أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾ والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وغير ذكل. أو : محمد والإسلام، قاله قتادة، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم، قاله ابن بحر أو : كتب الله، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى الله عليه وسلّم، وصحة نبوّته، وأمروا فيها باتباعه، قاله ابو علي.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون
٤٨٩
أنها آيات الله، ومتعلق الشهادة محذوف، يقدّر على حسب تفسير الآيات، فيقدّر بما يناسب ما فسرت به، فلذلك قال قتادة، والسدي، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة.
وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة. وقيل : إن كتبكم حق، ولا تتبعون ما أنزل فيها. وقيل : بصحتها إذا خلوتم.
فيكون : تشهدون، بمعنى : تقرون وتعترفون. وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم﴾.
وقيل : تكفرون بآيات الله : تنكرون كون القرآن معجزاً، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز.
﴿تَشْهَدُونَ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ تقدّم تفسير مثل هذا في قوله :﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ﴾ وفسر : اللبس، بالخلط والتغطية، وتكلم المفسرون هنا، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال
٤٩٠
معناه الحسن، وابن زيد.


الصفحة التالية
Icon