وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية، قال قتادة، وابن جرير والثعلبي. وقيل : الإيمان بموسى وعيسى، والكفر بالرسول. وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم على خلاف تأويلها، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون.
وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله :﴿بِالَّذِيا أُنزِلَ عَلَى﴾ وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلّم. والباطل : كتمانهم لبعض أمره، وهذان القولان عن ابن عباس. وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولاً ألينا، بل شريعتنا مؤبدة.
وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون، بفتح الباء مضارع : لبس، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه، والباء في : بالباطل، للحال أي : مصحوباً بالباطل.
وقرأ أبو مجلز : تلبسون، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة، والتشديد هنا للتكثير، كقولهم : جرّحت وقتلت، وأجاز الفراء، والزجاج في : ويكتمون، النصب، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذاوذاً ؟ فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين، وبإضمار : أن، في قول البصريين. وأنكر ذلك أبو علي، وقال : الإستفهام وقع على اللبس فحسب.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
وأما : يكتمون، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على : تلبسون، بل هو استئناف، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق، وقال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح، وكذلك إضمار : أن، لأن : يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة، قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب، إلاَّ في ضرورة شعر، كما روي :
والحق بالحجاز فاستريحا
وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها، الا يجوز إلاَّ النصب،
٤٩١
في : تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب. وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها، رفعت، لأن السير موجب، والاستفهام إنما وقع عن غيره. إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي.
والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله، لأن ما قبله فيه : أن الأستفهام وقع على اللبس فحسب، وأما : يكتمون، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه، تبعه في ذلك ابن مالك. فقال في (التسهيل) حين عد ما يضمر : أن، لزوماً في الجواب، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده، نحو : لم ضربت زيداً، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله، إما لكونه ليس ثم فعل، ولا ما في معناه ينسبك منه، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى، فإذا قال : لم ضربت زيداً فأضربك. أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه. لأن قوله :﴿لِمَ تَلْبِسُونَ﴾ ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله. ولو فرضنا أنه ماض حقيقة، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة، سبكناه من لازم الجملة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ و: من أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا. و: ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا. و: ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له.