وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا، وتكتموا، بحذف النون فيهما، قالوا : وذلك جزم، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لِمَ بلم في عمل الجزم. وقال السجاوندي : ولا وجه له إلاَّ أن : لم، تجزم الفعل عند قوم كلم. إنتهى. والثابت في لسان العرب أن : لَم، لا ينجزم ما بعدها، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى : لَمُ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً، وذلك في قراءة أبي عمر، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران، تتشديد الطاء، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون، وأما في النظم، فنحو : قول الراجز :
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد : وتبيتين تدلكين. وقال :
فإن يك قوم سرهم ما صنعتموستحتلبوها لاقحاً غير باهل
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل، وكتم الحق، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر.
﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه، ولا أن يخلطه بالباطل، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب، وختمت الآية قبل هذه بقوله :﴿وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ وهذه بقوله :﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر
٤٩٢
بآيات الله، وهي أخص من الحق، لأن آيات الله بعض الحق، والشهادة أخص من العلم، فناسب الأخص الأخص، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها، والعلم أعم من الشهادة، فناسب الأعم الأعم. وقالوا في قوله :﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي : أنه نبي حق، وأن جاء به من عند الله حق. وقيل : قال :﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف، ويقوم عليهم به الحجة. وقيل :﴿وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
وفي هذه الآيات أنواع من البديع. الطباق في قوله : الحق بالباطل، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون، لأن الشهادة إقرار وإظهار، والكفر ستر. والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب والحذف في مواضع قد بينت.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨٨
﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُوا بِالَّذِيا أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال الحسن، والسدي : تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمداً ليس كذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا : هم أهل الكتاب فهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت.
وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي : هذا في شأن القبلة، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه : صلوا إليها أول النهار، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره، فنزلت.
وقال ابن عباس، ومجاهد : صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلّم صلاة الصبح، ثم ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتها ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه، فنزلت.
وقال السدي : قالت اليهود لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار، فإذا كان بالعشي قولوا : قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء، فنزلت.
وحكى ابن عطية، عن الحسن : أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة. انتهى. جعلت اليهود هذا سبباً إلى خديعة المسلمين.
والمقول لهم محذوف، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة، والمراد : بآمنوا، أظهروا الإيمان، ولا يمكن أن يراد به التصديق، وفي قوله :﴿بِالَّذِيا أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ حذف أي : على زعمهم، وإلاَّ فهم يكذبون، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئاً على المؤمنين.
وانتصب : وجه النهار، على الظرف ومعناه : أول النهار، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٣
وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي :
من كان مسروراً بمقتل مالكفليأت نسوتنا بوجه نهار
والضمير في : آخره، عائد على النهار، أي : آخر النهار.
والناصب للظرف الأول : آمنوا، وللآخر : اكفروا. وقيل : الناصب لقوله : وجه النهار، أنزل. أي : بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار، والضمير في : آخره، يعود على الذي أنزل، أي : واكفروا آخر المنزل، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول، ومتعلق الرجوع محذوف أي : يرجعون عن دينهم.