وأما : أحد، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم، وكان ما قبله مقدراً بالنفي، كقول بعضهم إن المعنى : لا يؤتى، أو : إن المعنى : أن لا يؤتى أحد، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلاَّ في النفي أو ما أشبه النفي : كالنهي، وإن كان الفعل مثبتاً يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام، كما دخلت من في قوله :﴿أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ﴾ للنفي قبله في قوله :﴿مَّا يَوَدُّ﴾.
ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم :﴿بِالَّذِيا أُنزِلَ عَلَى﴾ الآية، لا يجدي شيئاً، ولا يصدّ عن الإيمان من أراد الله إيمانه، لأن الهدى هو هدى الله، فليس لأحد أن يحصله لأحد، ولا أن ينفيه عن أحد.
وقرأ ابن كثير : أن يؤتى أحد ؟ بالمدّ على الاستفهام، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل، لأن الإستفهام قاطع، فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به، أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحوه مما يدل عليه الكلام. و: يحاجوكم، معطوف على : أن يؤتى.
قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع : أن، نصباً، فيكون المعنى : أتشيعون، أو : أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ؟ ويكون بمعنى : أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم ؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث، ويكون : أو يحاجوكم، في تأويل نصب أن بمعنى : أو تريدون أن يحاجوكم ؟.
قال أبو عليّ وأحد، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلاَّ أنه : أحد، الذي في قولك : أحد وعشرون، وهو يقع في الإيجاب، لأنه في معنى : واحد، وجمع ضميره في قوله : أو يحاجوكم، حملاً على المعنى، إذ : لأحد، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ : وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة. انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله : أن يؤتيى، مفعولاً من أجله، على أن يكون داخلاً تحت القول من قول الطائفة، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة.
وقد اختلف السلف في هذه الآية، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله :﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ إلى آخر الآية مما أمر الله به محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يقوله لأمّته.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٣
وذهب قتادة، والربيع : إلى أن هذا كله من قول الله، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت :﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله ﴿أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾ كله من قول الطائفة لأتباعهم، وقوله ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ اعتراض بين ما قبله وما بعده من قول الطائفة لأتباعهم. وذهب ابن جريج إلى أن قوله :﴿أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ﴾ داخل تحت الأمر الذي هو : قل، يقوله الرسول لليهود، وتم مقوله في قوله : أوتيتم. وأما قوله :﴿أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ﴾ فهو متصل بقول الطائفة ﴿وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ﴾ وعلى هذه، الانحاء ترتيب الأوجه السابقة.
٤٩٦
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي يؤتى، بكسر الهمزة بمعنى : لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ؟ ويكون قولها : أو يحاجوكم، بمعنى : أو، فليحاجوكم، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى، أو يكون بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم، وهذا على تجويز : أن يؤتى، أحد ذلك إذا قامت الحجة له. هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة، وهذا على أن يكون من قول الطائفة.
وقال أيضاً في تفسيرها : كأنه صلى الله عليه وسلّم يخبر أمّته أن الله لا يعطي أحداً، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطاً، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلّم لأمّته، ومندرج تحت : قل.
وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري، قال : وقرىء : إن يؤتى أحد على : إن، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، أي : ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم.
قال ابن عطية : وقرأ الحسن : ان يؤتى أحدٌ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى : أحد، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطاباً من محمد صلى الله عليه وسلّم لأمته، والمفعول محذوف تقديره : ان يؤتى أحد أحداً. انتهى. ولم يتعرّض ابن عطية للفظ : ان، في هذه القراءة : أهي بالكسر أم بالفتح.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٣