﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب، وافتراء عظيم على الله، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون، ولا يودّون في ذلك، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله على موسى كذلك، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة.
﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ رد عليهم في إخبارهم بالكذب، وهذا تأكيد لقوله ﴿وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ﴾ نفي أولاً أخص، إذ التعليل كان لأخص، ونفي هنا أعم، لأن الدعوى منهم كانت الأعم، لأن كونه من عند
٥٠٣
الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده. انتهى. وهذا مذهب المعتزلة، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم.
وقال ابن عطية ﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد، ومنهم بالتكسب. ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله :﴿وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً.
﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَـابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ﴾ روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلّم، حين اجتمت الأحبار من يهود، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت"، فنزلت.
وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك ؟ قال :"لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله".
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله :﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ﴾ فقال ابن عباس، والربيع، وابن جريج، وجماعة : الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم، وذكروا سبب النزول المذكور.
وقال النقاش، وغيره : الإشارة إلى عيسى، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره، ومعنى ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ﴾ وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون، والمراد نفي الخبر، وذلك على قسمين.
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل، ويعبر عنه بالنفي التام، ومثاله قوله :﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ﴾ ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء، ويعبر عنه بالنفي غير التام، ومثاله قول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذين النفي فيه، وهذه الآية من القسم الأول، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكَذَبُة والمدَّعين النبوّة، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام.
والكتاب : هنا اسم جنس، والحكم : قيل بمعنى الحكمة، ومنه :"إن من الشعر لحكماً". وقيل : الحكم هنا السنة، يعنون لمقابلته الكتاب، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس، وهذا من باب الترقي، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير، ثم يقول للناس.
أتى بلفظ : ثم، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم.
﴿كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ﴾ عباداً جمع عبد. قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي. قال بعض اللغويين : هذه الجموع
٥٠٤
كلها بمعنى. وقال قوم : العباد لله والعبيد للبشر. وقال قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد، كأنه مبالغة تقتضى الاستغراق في العبودية.