والذي استقرئت في لفظة : العباد، أنه جمع عبد، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ رَءُوفُا بِالْعِبَادِ﴾ ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ ﴿قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾.
وأما : العبيد، فيستعمل في التحقير، ومنه قول امرىء القيس :
قولاً لدودان عبيد العصاما غركم بالأسد الباسل
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي، ومنه ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة، لم يقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله :﴿قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله :﴿كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ﴾ اعبدوني واجعلوني إلهاً. انتهى كلام ابن عطية. وفيه بعض مناقشة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدي، أما عبيد فالأصح أنه جمع. وقيل : اسم جمع، و: أما عبدبي فاسم جمع، وألفاء للتأنيث. وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير، وأنشد بيت أمرىء القيس، وقول حمزة وقوله تعالى ﴿بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فليس باستقراء صحيح، وإنما كثر استعمال : عباد، دون : عبيد، لأن فعالاً في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد، وجمع فعل على فعيل لا يطرد.
قال سيبويه : وربما جاء فعيلاً وهو قليل، نحو : الكليب والعبيد. انتهى.
فلما كان فعال هو
٥٠٥
المقيس في جمع : عبد، جاء : عباد، كثيراً. وأما ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله ﴿أُوالَـا ئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانا بَعِيدٍ﴾ وبعده ﴿قَالُوا ءَاذَنَّـاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ﴾ فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين، ونظير هذا قوله في سورة ق :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ لأن قبله ﴿قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ﴾ وبعده ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾ وأما مدلوله فمدلول : عباد، سواء.
وأما بيت امرىء القيس فلم يفهم التحقير من لفظ : عبيد، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين.
وقرأ الجمهور : ثم يقول، بالنصب عطفاً على : أن يؤتيه، وقرأ شبل عن ابن كثير، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول. وقرأ الجمهور : عباداً لي، بتسكين ياء الإضافة. وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها.
﴿وَلَـاكِن كُونُوا ﴾ هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين، والرباني الحكيم العالم، قاله قتادة، وأبو رزين. أو : الفقيه، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد. أو : العالم الحليم، قاله قتادة وغيره. أو : الحكيم الفقيه، قاله ابن عباس. أو : الفقيه العالم، قاله الحسن، والضحاك. أو : والي الأمر يربيهم ويصلحهم، قاله ابن زيد. أو : الحكيم التقي، قاله ابن جبير. أو : المعلم، قاله الزجاج. أو : العالم، قاله المبرد. أو : التائب لربه، قاله المؤرج. أو : الشديد التمسك بدين الله وطاعته، قاله الزمخشري. أو : العالم الحكيم الناصح لله في خلقه، قاله عطاء. أو : العالم العامل بعلمه، قاله ابن جبير. أو : العالم المعلم، قاله بعضهم. وهذه أقوال متقاربة.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر، لأن الحبر هو العالم، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم. وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى. ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الآمة.


الصفحة التالية
Icon