﴿رَبَّـانِيِّـانَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ الباء للسبب، و: ما، الظاهر أنها مصدرية، و: تعلمون، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤوا بالتخفيف مضارع علم، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة، فيتعدّى إلى اثنين، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب. وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى.
وقرأ مجاهد، والحسن : تعلمون، بفتح التاء والعين واللام المشددة، وهو مضارع حذفت منه التاء، التقدير : تتعلمون، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما.
وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء. وروي عنه : تدرّسون، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية. وقرىء : تدرسون، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم، و: أنزل نزّل، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها، ثم قال أيضاً، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته. انتهى
٥٠٦
كلامه. وفيه دسيسة الاعتزال، وهو أنه : لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل، وأن العمل شرط في صحة الإيمان.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَئاِكَةَ وَالنَّبِيِّـانَ أَرْبَابًا ﴾ قرأ الحرميان، والنحويان، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله، قاله سيبويه، والزجاج. وقال ابن جريج : عائد على : بشر، الموصوف بما سبق، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره. وإن كان الضمير عائداً على الله فيكون إخباراً من الله أنه لم يأمر بذلك، فانتفى أمر الله بذلك، وأمر أنبيائه.
وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة ولا يأمركم، بنصب الراء، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم، فقدروا : أن، مضمرة بعد : لا، وتكون : لا، مؤكدة معنى النفي السابق، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام. وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، فلا للتوكيد في النفي السابق، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.
وقال الطبري قوله : ولا يأمركم، بالنصب معطوف على قوله : ثم يقول : قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى. انتهى كلامه. ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على : ثم يقول، وكانت لا لتأسيس النفي، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل : لا، وهو : أن، فينسبك من : ان، والفعل المنفي مصدرٍ منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له الأنتفاء كان له الثبوت، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما، فينتفي قوله :﴿كُونُوا عِبَادًا لِّى﴾ وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضح هذا المعنى وضع : غير، موضع : لا، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو، كانت : لا، لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت : لا، لتأسيس النفي كانت بمعنى : غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له، إذ لو قلت : ما لزيد فقه وغير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت : ماله غير نحو. ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد، كان المعنى : جئت بغير زاد، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد، معناه : أنك جئت بزاد ؟ لأن : لا، هنا لتأسيس النفي، وأن يكون من عطف المنفي بلا على الثبت الداخل عليه النفي، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم، تريد : ما أريد أن لا تتعلم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٧