وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا، لتأسيس النفي، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا، غير مزيده، والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له : أنتخذك رباً، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وينصرها قراءة عبد الله : ولن يأمركم، انتهى كلام الزمخشري.
﴿أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الأسلام ولا قبله، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله.
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع : كفراً. و: بعد، ينتصب بالكفر، أو : بيأمركم، وإذ، مضافة للجملة الإسمية كقوله :
٥٠٧
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ﴾ وأضيف إليها : بعد، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٧
﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِا وَلَتَنصُرُنَّهُا﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات الله ثمناً قليلاً، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة، وإن منهم من بدل في كتابه وغير، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره، بل تفرّد بالله تعالى بالعبادة، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلّم، والتصديق له، والقيام بنصرته، وإقرارهم بذلك، وشهادتهم على أنفسهم، وشهادته تعالى عليهم بذلك، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم.
وقرأ أبي، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب، بدل : النبيين، وكذا هو في مصحفيهما. وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين كعبد الله بن كثير وغيره، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان.
والخطاب بقوله : وإذ أخذ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلّم، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر، أو : أذكروا، ويجوز أن يكون العامل في : إذ، قال من قوله :﴿قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ﴾ وهو حسن، إذ لا تكلف فيه.
قيل : ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ، والعامل فيها : اصطفى، وهذا بعيد جداً.
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ، وابن عباس، وطاووس، والحسن، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً، وأن ينصر بعضهم بعضاً، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه. وينبو عن هذا المعنى لفظ :﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ إلى آخر الكلام.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه :
٥٠٨
أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم ونصره، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء، ويدل عليه قول عليّ كرّم الله وجهه : ما بعث الله نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلّم، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه. وروي عن ابن عباس أيضاً : أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى الله عليه وسلّم. وعلى هذين القولين يكون قوله :﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ عني به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا يكون جنساً. ويبعد قول ابن عباس : أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر.