قرأ حمزة : لما آتيناكم، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة. و: ميثاق، مضاف إلى النبيين، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله :﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ﴾ الآية وما بعدها من قوله :﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا﴾ أن المراد بقوله ﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ﴾ هو محمد صلى الله عليه وسلّم، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم. وكثيراً ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلّم، ألا ترى إلى قوله ﴿وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ ؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب، أو ميثاق أولاد النبيين، فيوافق صدر الآية ما بعدها، وجعل ذلك ميثاقاً للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً بعد النبيين، التقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم. ويبين هذا التأويل قراءة أبي، وعبد الله : ميثاق الذين أوتوا الكتاب، ويبين أيضاً أن الميثاق كان على الأمم قوله :﴿فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَالِكَ فَأُوالَئاِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ ومحال هذا الفرض في حق النبيين، وإنما ذلك في حق الأتباع.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
وقرأ جمهور السبعة : لما، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة : لما، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير، والحسن : لما، بتشديد الميم.
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.
أحدهما : أن : ما، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها، واللام قبلها موطئة لمجيء : ما، بعدها جواباً باللقسم، وهو أخذ الله ميثاق. و: من، في قوله : من كتاب، كهي، في قوله :﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ﴾ والفعل بعد : ما، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم، ما، الشرطية عليه. وقوله : ثم جاءكم، معطوف على الفعل بعد : ما، فهو في حيز الشرط، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم، رابط يربطها بما عطفت عليه، لأن : جاءكم، معطوف على الفعل بعد : ما، و: لتؤمنن به، جواب لقوله ﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ﴾ ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم لأيهم صحبت، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي. فلأحسنن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والضمير في : به، عائد على : رسول، وهذا القول، وهو أن : ما، شرطية هو قول الكسائي.
وسأل سيبويه
٥٠٩
الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما، ههنا بمنزلة : الذي، ودخلت اللام كما دخلت على : إن، حين قلت : والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام في : ما، كهذه التي في : أن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه : ومثل ذلك ﴿لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى.
وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة، بل أنها اسم، كما أن الذي اسم وأقر أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً :﴿وَإِنَّ كُلا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ وفي قوله :﴿وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ﴾ انتهى. وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما، في : لما أتيتكم، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء : كالمازني، والزجاج، وأبي علي، والزمخشري، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت، ومتعلقاته متعلقاته، فإذا قلت : والله لمن جاءني لأكرمنه، فجواب : مَنْ، محذوف، التقدير : من جاءني أكرمه. وفي الآية اسم الشرط : ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم، وهو الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما، المقدّر، فجواب : ما، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك، لأنه تعد. والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم
٥١٠
الشرط، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم ؟ ألا ترى أنك لو قلت : والله لئن ضربني زيد لأضربنه ؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه ؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه، لأن : لأضربنه، لا يدل على : أشكه، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما، على أنها شرطية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨


الصفحة التالية
Icon