والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم، وهو : أن تكون : ما، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة، قال : إلاَّ أنه حذف : لتبلغن، لدلالة عليه، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف، ثم قال تعالى :﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِا وَلَتَنصُرُنَّهُا﴾ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، انتهى. ويعني : يكون : لتؤمنن به، جواب قسم محذوف، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم، والله لزيداً تريد ليضربن زيداً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق، وهو : أن يكون : لما، تخفيف لما، والتقدير : حين آتيناكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد.
وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل، و: ما، موصولة : بآتيناكم، والعائد محذوف. و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والرابط لها بالموصول إما إضمار : به، على ما نسب إلى سيبويه، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن.
وقول الزمخشري : فجواب : أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به، والضمير في : به، عائد على رسول، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، لو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه، جاز. وأجاز الزمخشري، في قراءة حمزة، أن تكون : ما، مصدرية، وبدأ به في توجيه هذه القراءة، قال : ومعناه لأجل إيتائي إياكم
٥١١
بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به، على أن : ما، مصدرية، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم، في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى كلامه. إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره، وهذا التقدير الذي قدره، أنه تعليل للفعل المقسم عليه، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقة، وهو الإيمان. فاللام متعلقة بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : لتؤمنن به، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول : والله لأضربن زيداً، فلا يجوز : والله زيداً لاضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في : لما، بقوله : لتؤمنن به.
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب، إذا كان ظرفاً أو مجروراً، تقدّمه، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق، وقوله تعالى :﴿عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَـادِمِينَ﴾ فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو.
وذكر السجاوندي، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد، كقول النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتهالستة أعوام وذا العام سابع
فعلى ذا لا تكون اللام في : لما، للتعليل.
وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير، والحسن : لما، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون : لما، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك. انتهى كلامه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
قال ابن عطية : ويظهر أن : لما، هذه هي الظرفية، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة.
وقال الزمخشري : لما، بالتشديد بمعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته. انتهى. فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن : لما، ظرفية، واختلفا في تقدير الجواب العامل في : لما، على زعمهما. فقدّره ابن عطية من القسم، وقدّره الزمخشري من جواب القسم، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في : لما، المقتضية جواباً، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب، وليست ظرفية بمعنى : حين، ولا بمعنى غيره، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي.
وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه.
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها : لمن ما، وزيدت : من، في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا، فجاء : لمما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات، فحذفت الميم الأولى فبقي : لما.
قال ابن عطية : وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير : لما، بفتح الميم مخففة، وقد تقدّم. انتهى.


الصفحة التالية
Icon