وظاهر كلامه أن : من، في قوله : لمن ما، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة : لما، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد، فقال : وقيل أصله : لمن مّا، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي : الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها، فصارت : لما، ومعناه : لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى. انتهى كلامه. وهو مخالف لكلام ابن جني في : من، المقدّر دخولها على : ما، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة، لأنه جعلها للتعليل.
وفي قول الزمخشري : فحذفوا إحداهما، إبهام في المحذوف، وقد عينها ابن جني : بأن المحذوفة هي الأولى، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله، فكيف كلام الله تعالى ؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب.
٥١٢
ويلزم في : لما، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في : لمن ما آتيناكم، زائدة، ولا تكون اللام الموطئة، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت : أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمراً، لم يجز، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
وقرأ نافع : آتيناكم، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع، وقرأ الجمهور : آتيتكم، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده، إذ تقدّمه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ﴾ وجاء بعده ﴿إِصْرِى ﴾.
وقرأ عبد الله : رسول مصدّقاً، نصبه على الحال، وهو جائز من النكرة، وإن تقدّمت النكرة. وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى، لأن المعني به محمد صلى الله عليه وسلّم على قول الجمهور، وقوله : لما آتيتكم، إن أريد جميع الأنبياء، وهو ظاهر اللفظ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه، ويكون التعميم في الأنبياء مجازاً، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء، ويكون التعميم حقيقة. وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز، وهو : أممهم، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً.
﴿ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ أي : ثم جاء في زمانكم. ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول : رسول، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر الله، وفي قوله :﴿مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ﴾ دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء، فهذان الوجهان محتملان، وأوجب الإيمان أولاً، والنصرة ثانياً، وهو ترتيب ظاهر.
﴿قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى ﴾ ظاهره أن الضمير في : قال، عائد على الله تعالى، وفي : أقررتم، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف، أهو على ظاهره ؟ أم هو على حذف مضاف ؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم ؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له.
قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال، على كل فرد فرد من النبين، أي : قال كل نبي لأمته : أأقررتم، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم، بل طالبوهم بالإقرار بالقول.
ويكون : إصري، على الظاهر مضافاً إلى الله تعالى، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافاً إلى النبي والإصر : العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد. وقرىء بضم الهمزة، وهي مروية عن أبي بكر عن عاصم، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : اصر، كما قالوا : اناقة أسفار عبر، وعبر أسفار، وهي المعدّة للأسفار. ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا : القبول.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا ﴾ معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته، وقبلنا ذلك والتزمناه. وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها.


الصفحة التالية
Icon