﴿قَالَ فَاشْهَدُوا ﴾ الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق : فاشهدوا، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر، قاله مقاتل. وقيل : فاشهدوا هو خطاب لملائكة، قاله ابن المسيب. وقيل : معنى : فاشهدوا، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به، وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى، قاله الزجاج، ويكون : اشهدوا، بمعنى : أدّوا، لا يمعنى : تحملوا. وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له، قاله ابن عباس. وقيل : فاشهدوا، خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب.
٥١٣
وعلى القول : بأن المعنى في : قال أأقررتم، أي : قال كل نبي، يكون المعنى على بكل نبي لأمّته فاشهدوا، أي : ليشهد بعضكم على بعض. وقوله : فاشهدوا، معطوف على محذوف التقدير، قال : أأقرتم فاشهدوا، فالفاء دخلت للعطف. ونظير ذلك قوله : ألقيت زيداً ؟ قال : فأحسن إليه. التقدير : لقيت زيداً فاحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ألا ترى قال : أأقررتم، وقوله : قالوا أقررنا ؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء.
﴿وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّـاهِدِينَ﴾ يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد، ويحتمل أن يكون جملة حالية
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥٠٨
﴿فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَالِكَ فَأُوالَئاِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ أي : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار والتزام العهد، قاله عليّ بن أبي طالب وغيره. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق، على أن قوله تعالى : فاشهدوا، أمر بالأداء.
و : من، الظاهر أنها شرط، والجملة من : فأولئك وما بعده جزاء، ويحتمل أن تكون موصولة، وأعاد الضمير في : تولى، مفرداً على لفظ : من وجمع في : فأولئك، حملاً على المعنى، وهذه : ذلك الجملة تدل عل أن الذين أخذ منهم الميثاق هم أتباع الأنبياء، لأنه حكم تعالى بالفسق على من تولى بعد ذلك، وهذا الحكم لا يليق إلاَّ بأمم الأنبياء، وأيضاً فالأنبياء، عليهم السلام، كانوا أمواتاً عند مبعثه صلى الله عليه وسلّم، يعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق هم أممهم.
وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة. منها : الطباق : في : بقنطار وبدينار، إذ أريد بهما القليل والكثير، وفي : يؤدّه ولا يؤدّه، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع، وهما ضدان، وفي قوله : بالكفر ومسلمون، والتجنيس المغاير في : اتقى والمتقين، وفي : فاشهدوا والشاهدين، والتجنيس المماثل في : ولا يأمركم أيأمركم، وفي : أقررتم وأقررنا. والإشارة في قوله : ذلك بأنهم، وفي أولئك لا خلاق لهم. والسؤال والجواب، وهو في : قال أأقررتم ؟ ثم : قالوا أقررنا. والاختصاص في : يحب المتقين، وفي يوم القيامة، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال. والتكرار في : يؤدّه ولا يؤده، وفي اسم الله في مواضع، وفي : من الكتاب وما هو من الكتاب. والاستعارة في : يشترون بعهد الله. والالتفات في : لما آتيتكم، وهو خطاب بعد قوله : النبيين، وهو لفظ غائب. والحذف في عدة مواضع تقدمت.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٣
الملء : مقدار ما يملأ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال : ملء القدح، وملآه، وثلاثة أملائه، وبفتح الميم المصدر، يقال : ملأت الشيء املأه ملأ، والملاءة التي تلبس، وهي الملحفة بضم الميم والهمز. وتقدمت هذه المادة في شرح : الملأ.
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ﴾ روي عن ابن عباس : اختصم أهل الكتاب فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبي كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا. وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. فنزلت هذه الآية.
ومناسبة هذه
٥١٤
الآية لما قبلها ظاهر جداً.
والهمزة في : أفغير ؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض، وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق، ومعنى : تبغون، تطلبون، وهو هنا بمعنى : تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين الله لا طالبوه، وعبر بالطلب إشعاراً بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
وقال الماتريدي : فإن قيل كل عاقل يبتغي دين الله ويدعي أنّ الذي هو عليه دين الله.
قيل : الجواب من وجهين.
أحدهما : أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين الله، إذ لو كان باغياً لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه، فكأنه ليس باغياً من حيث المعنى، ولكنه من حيث الصورة.
والثاني : أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات، ولكن أبى إلاَّ العناد، فهو باغ غير دين الله، فتكون الآية في المعاندين. انتهى كلامه.