وقرأ أبو عمرو، وحفص، وعياش، ويعقوب، وسهل : يبغون، بالياء على الغيبة، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو، وعاصم بكماله. وقرأ الباقون : بالتاء، على الخطاب، فالياء على نسق : هم الفاسقون، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام. والتقدير : فأغير ؟ وجوّز هذا الوجه الزمخشري، وهو قول جميع النحاة قبله. قال : ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون. انتهى. وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك، وأمعنا الكلام عليه في كتاب (التكميل) من تأليفنا.
وانتصب : غير، على أنه مفعول يبغون، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل، قاله الزمخشري. ولا تحقيق فيه، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع، وشبه : يبغون، بالفاصلة بآخر الفعل.
﴿وَلَهُا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ أسلم عند الجمهور : استسلم وانقاد، قال ابن عباس : أسلم طوعاً بحالته الناطقة عند أخذ الميثاق عليه، وكرهاً عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام. وقال مجاهد : سجود ظل المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كاره. كما قال تعالى :﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَـالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ﴾ وقال مجاهد أيضاً، وأبو العالية، والشعبي : ما يقار معناه : أسلم أقرّ بالخالقية والعبودية، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة، فمن أشرك أسلم كرهاً. ومن أخلص أسلم طوعاً. وقال الحسن : أسلم قوم طوعاً وقوم خوف السيف. وقال مطر الوراق : أسلم من في السموات طوعاً وكذلك الأنصار، وبنو سليم، وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف. وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان. وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه. وقال ابن عطية : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلاَّ في أفراد. انتهى. وقال عكرمة : طوعاً باضطرار الحجة. وقال الزمخشري : طوعاً بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه، وكرهاًو بالسيف، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾. انتهى. فلفق الزمخشري تفسير : طوعاً، من قول عكرمة وتفسير قوله : وكرهاً، من قول مطر الوراق وقول قتادة. وقال الكلبي : طوعاً بالولادة على الإسلام، وكرهاً بالسيف.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
وقال ابن كيسان : المعنى : وله خضع من في السموات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم عليه، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه، رضوا بذلك أو سخطوه ؛ وهذا معنى قول الزجاج : إن الأسلام هنا الخضوع
٥١٥
لنفوذ أمره في جبلته، لا يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في السموات، وخصوص من في الأرض.
والطوع هو الذي لا تكلف فيه، والكره ما فيه مشقة، فإسلام من في السموات طوع صرف إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة، وإسلام من في الأرض، من كان منهم معصوماً كان طوعاً، ومن كان غير معصوم كان كرهاً، بمعنى أنه في مشقة، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية، فلو لم يأت رسول من الله مبشر بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئاً من التكاليف.
وهذه الأقوال لا تخرج : أسلم، فيها عن أن يحمل على الاستسلام، وعلى الاعتقاد، وعلى الإقرار باللسان، وعلى التزام الأحكام. وقد قيل بهذا كله.
والجملة من قوله :﴿وَلَهُا أَسْلَمَ﴾ حالية. و: طوعاً وكرهاً، مصدران في موضع الحال، أي : طائعين وكارهين. وقيل : هما مصدران على خلاف الصدر.
وقرأ الأعمش : كرهاً، بضم الكاف، والجمهور بفتحها.
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ تهديد عظبم لمن اتبع وابتغى غير دين الله، وتقدّم معنى الرجوع إليه، ويحتمل أن يكون قد عطف على قوله :﴿وَلَهُا أَسْلَمَ﴾ فيكون مشاركاً له في الحالية، وكأنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من انقاد إليه المكلفون كلهم ومن إليه مرجعهم، فيجازيهم على أعمالهم. والمعنى : أن من كان بهاتين الصفتين لا يبتغي ديناً غير دينه، ويحتمل أن يكون اسئتنافاً وإخباراً بأنه تعالى إليه مصيرهم ومنقلبهم فيجازيهم بأعمالهم.