وقرأ حفص، وعباس، ويعقوب، وسهل : يرجعون، بالياء على الغيبة، فيحتخمل أن يكون عائداً على من أسلم، ويحتمل أن يكون عائداً على غير ضمير يبغون، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ : تبغون، بالتاء إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة. وقرأ الباقون : بالتاء، فإن عاد الضمير على من كان التفاتاً، أو على ضمير : تبغون، كان التفاتاً على قراءة من قرأ : يبغون، بالياء، أو يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب.
﴿قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ﴾ هذه الآية موافقة لما في البقرة إلاَّ في : قل، وفي : علينا، وفي : عيسى والنبيون، وقد تقدّم شرح ما في البقرة فأغنى عن إعادته هنا، إلاَّ ما وقع فيه الخلاف، فنقول : الظاهر في : قل، أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، أمر أن يخبر عن نفسه وعن أمته بقوله : آمنا به، ويقوي أنه إخبار عنه وعن أمته قوله أخيراً : ونحن له مسلمون. وأفرده بالخطاب بقوله : قل، لأنه تقدّم ذكره في أخذ الميثاق في قوله : ثم جاءكم رسول، فعينه في هذا التكليف ليظهر فيه كونه مصدّقاً لما مع الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق. وقال : آمنا، تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه، بل هو لازم لكل المؤمنين. قال تعالى : ، كل آمن بالله} بعد قوله : بعد قوله :﴿الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِا وَالْمُؤْمِنُونَا كُلٌّ﴾.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
قال الزمخشري ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه وقال ابن عطية : المعنى قل يا محمد، أنت وأمتك : آمنا بالله، فيظهر من كلام ابن عطية أن ثم معطوفاً حذف، وأن ثم الأمر متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأمته.
وأما تعدية أنزل، هنا : بعلى، وفي البقرة بإلى فقال ابن عطية : الإنزال على نبي الأمة إنزال عليها.
وقال الزمخشري : فإن قلت لم عدَّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدّم من مثلها بحرف الانتهاء ؟.
قلت لوجود المعنيين جميعاً، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر.
وقال الراغب : إنما قال هنا : على، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلّم، وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشر كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به، وهناك، لما كان خطاباً للأمة، وقد
٥١٦
وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلّم، كان لفظ : إلى، المختص بالإيصال أولى، ويجوز أن يقال : أنزل عليه إنما على ما أمر المنزل عليه أن يبلغ غيره، وأنزل إليه على ما خص به في نفسه. وإليه نهاية الإنزال، وعلى ذلك قال :﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ وقال :﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ خص هنا : بإلى، لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب. انتهى كلامه.
وذكر الزمخشري أن : من قال هذا الفرق فقد تعسف، قال : ألا ترى إلى قوله :﴿بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ﴾ وإلى قوله :﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ ءَامِنُوا ﴾ ؟ انتهى.
وأما إعادة لفظ : وما أوتي، فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز، ولما كان الخطاب هنا خاصاً اكتفى فيه بالإيجاز.
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ الإسلام هنا قيل هو الاستسلام إلى الله والتفويض إليه، وهو مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد، وإسلام الوجه لله.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
وقيل : المراد بالإسلام شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم، بيَّن تعالى أن من تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء.
قيل : وعن ابن عباس لما نزلت :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَـارَى ﴾ الآية أنزل الله بعدها :﴿وَمَن يَبْتَغِ﴾ الآية. وهذا إشارة إلى نسخ ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾. وعن عكرمة : لما نزلت قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون، فقال الله له : حجهم يا محمد، وأنزل ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ فحج المسلمون وقعد الكفار.
وقيل : نزلت في الحارث بن سويد، وستأتي قصته بعد هذا. وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه.