وانتصب : ديناً على التمييز : لغير، لأن : غير، مبهمة، ففسرت بدين، كما أن مثلاً مبهمة فتفسر أيضاً. وهذا كقولهم : لنا غيرها إبلاً وشاء، ومفعول : يبتغ هو : غير، وقيل : ديناً، مفعول، و: غير، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً وقيل : ديناً، بدل من : غير، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام.
﴿وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ﴾ الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة.
و : في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي : وهو خاسر في الآخرة، أو : بإضمار أعني، أو : بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف، كهي في : الرجل، أو : به على أنها موصولة، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، وكلُّ منقول، وقد تقدّم لنا نظير.
﴿كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُا وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ﴾ نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد صلى الله عليه وسلّم، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته، قاله الحسن وروى عطية قريباً منه عن ابن عباس وقال مقاتل : في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد الأنصاري، فندم ورجع، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، وذكر مجاهد، والسدّي : أن الحارث كان يظهر الإسلام، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه، وقتل زيد بن قيس، وارتد ولحق بالمشركين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر أن يقتله إن ظفر به، ففاته، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة، فنزلت إلى قوله :﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا ﴾ فكتب بها قومه، إليه فرجع تائباً.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
ورواه عكرمة عن ابن عباس، ولم يسمه، ولم يذكر سوى أنه رجل من
٥١٧
الأنصار ارتد فلحق بالمشركين، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولاً وقيل : لحق بالروم وقيل : ارتد الحارث في أحد عشر رجلاً، وسمى منهم الزمخشري : طعمة بن أبيرق، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن الأسلت، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر، وسمى منهم : أبا عامر الراهب، والحارث ووجوهاً.
وقال النقاش : نزلت في طعمة بن أبيرق. ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم. وقيل : هي في عامة المشركين وقال مجاهد : حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه فقال له الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله تعالى لأصدق الثلاثة. قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه.
كيف : سؤال عن الأحوال، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان، أي : كيف يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها ؟ فاستبعد حصولها لهم مع شدّة الجرائم، كما قال صلى الله عليه وسلّم :"كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها" ؟.
وقال الزمخشري : كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ؟ انتهى. وهذه نزعة إعتزالية، إذ ليس المعنى عنده : إن الله يخلق الهداية فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم، بل هما مخلوقان للعبد.
وقيل : الاستفهام هنا يراد به الجحد، والمعنى : ليس يهدي، ونظيره قول الشاعر :
فهذي سيوف، يا صديّ بن مالككثير، ولكن : أين بالسيف ضارب ؟
وقول الآخر :
كيف نَومي على الفراش ولمايشمل الشام غارة شعواء ؟
والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق، وأبعد من زعم أن المعنى : لا يهديهم إلى الجنة إلاَّ إن تجوَّز، فأطلق المسبب على السبب، لأن دخول الجنة مسبب عن الإيمان، فيعود إلى القول الأول.
وشهدوا : ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا، وبه قال الحوفي، وابن عطية، ورده مكي وقال : لا يجوز عطف : شهدوا، على : كفروا، لفساد المعنى، ولم يبين من أي جهة فساد المعنى، وكأنه توهم الترتيب، فلذلك فسد المعنى عنده وقال ابن عطية : المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر، و: الواو، لا ترتب، وأجاز قوم منهم : مكي، والزمخشري : أن يكون معطوفاً على : ما في إيمانهم، من معنى الفعل، إذ المعنى : بعد أن آمنوا وشهدوا. وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون : الواو، للحال لا للعطف، التقدير : كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا، والعامل فيه : كفروا.
والرسول هنا : محمد صلى الله عليه وسلّم، قاله الجمهور، وجوّز أن يكون الرسول هنا بمعنى الرسالة، وفيه بعد.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٥١٤
والبينات : هي شواهد القرآن، والمعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء.


الصفحة التالية
Icon