والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك، وإن اختلف معنى التقويين، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؟ ونقول أيضاً أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام، لأن المعنى : واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله. وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم، وانظر إلى قوله :﴿لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى ﴾ كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق.
وفي الحديث :"من أبرّ ؟ قال : أمّك وفيه : أنت ومالك لأبيك" وقال تعالى في ذم من أضله : من الفاسقين ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنا بَعْدِ مِيثَـاقِهِا وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِا أَن يُوصَلَ﴾. وقيل : النصب عطفاً على موضع به كما تقول : مررت بزيد وعمراً. لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه. ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله : تساءلون به وبالأرحام. أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل. وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقي، أو مما يتساءل به، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية، إذا قدر ما يدل عليه اللفظ السابق، وابن عطية قدر من المعنى. وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد. ويؤيده قراءة عبد الله : وبالأرحام. وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم.
قال الزمخشري : وليس بسديد يعني : الجر عطفاً على الضمير. قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه، والجار والمجرور كشيء واحد، فكانا في قولك : مررت به وزيد، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال، فلما اشتد الاتصال
١٥٧
لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد، وهذا غلامه وغلام زيد. ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر ؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار، ونظير هذا قول الشاعر :
فما بك والأيام من عجب
وقال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض. قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحدمنهما محل صاحبه. فكما لا يجوز مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال : فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنافاذهب فما بك والأيام من عجب
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
وكما قال :
تعلق في مثل السواري سيوفناوما بينها والكف غوط تعانف
واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية. وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيداً، ولا يجوز رأيت زيداوك، فكان القياس رأيتك وزيداً، أن لا يجوز. وقال ابن عطية أيضاً : المضمر المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف.
ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفريق في معنى الكلام. وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلّم :"من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" انتهى كلامه. وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى، وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها، وأنها من الله تعالى بمكان. قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى. وما ذهب إليه أهل
١٥٨
البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز. وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى :﴿وَكُفْرُا بِهِا وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾. وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرنا ونظمها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠


الصفحة التالية
Icon