أي كان ذلك ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ﴾ ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت :{نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن. قيل لهم : أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي بما كسن في حقوقهن. وقاله أيضاً ربيعة. وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا. وقال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والسدي : كانت العرب تتخرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، يتزوجون العشرة فأكثر، فنزلت في ذلك : كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الحور عنه. وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا، وانكحوا على ما حد لكم. وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصاً بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء.
والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم، ونهوا عن الاستبدال المذكور، وعن أكل أموال اليتامى، كان في ذلك مزيداً اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى :{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما
١٦١
يأكلون في بطونهم ناراً فحوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء، فانكحوا غيرهن، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى. فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن.
وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها. خلافاً لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا : لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي، فيندرج فيه البالغات، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيتُ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها ؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ. ومعنى : خفتم حذرتم، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر. وقال أبو عبيدة : معنى خفتم هنا أيقنتم، وخاف تكون بمعنى أيقن، ودليله قول الشاعر :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
فقلت لهم خافوا بألفي مدحج
وما قاله لا يصح، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن، وإنما خاف من أفعال التوقع، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين. وقد روى ذلك البيت : فقلت لهم : ظنوا بألفي مدحج. هذه الرواية أشهر من خافوا. قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء مّا، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء، أو نسف الجبال انتهى.
ومعنى أن لا تقسطوا أي : أن لا تعدلوا. أي : وإن خفتم الجوز وأقسط : بمعنى عدل. وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار. وقال الزجاج : ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل. فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة، أي : وإن خفتم أن تقسطوا أي : إن تجوروا، والآن لا يتم إلا باعتقاد زيادتها. وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا، كانت للنفي كما في تقسطوا.


الصفحة التالية
Icon