وقرأ ابن أبي عبلة من طاب. وقرأ الجمهور : ما طاب. فقيل : ما بمعنى من، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء، وهو مذهب مرجوح. وقيل : عبر بما عن النساء، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء. وقيل : ما واقعة على النوع، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل. وقال أبو العباس : ما لتعميم الجنس على المبالغة، وكان هذا القول هو القول الذي قبله. وقيل : ما مصدرية، والمصدر مقدّر باسم الفاعل. والمعنى : فانحوا النكاح الذي طاب لكم. وقيل : ما نكرة موصوفة، أي : فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم. وقيل : ما ظرفية مصدرية، أي : مدة طيب النكاح لكم. والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله : فانكحوا، وأنّ من النساء معناه : من البالغات. ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي : كائناً من النساء، ويكون في موضع الحال. وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية، فمفعول فانكحوا هو من النساء، كما تقول : أكلتُ من الرغيف، والتقدير فيه : شيئاً من الرغيف. ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالامالة. وفي مصحف أبي طيب بالياء، وهو دليل الإمالة. وظاهر فانكحوا الوجوب، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره. وقال غيرهم : هو ندب لقوم، وإباحة الآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة مندوب إليه. ومعنى ما طاب : أي ما حل، لأن المحرمات من النساء كثير قاله : الحسن وابن جبير وأبو مالك. وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب. قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا العبيد.
١٦٢
ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عامًّا في الأعداد كلها، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع. فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنَّ لنا أن أن نتزوج اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة، ولا ما بعد ذلك من الأعداد. وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره. فلا يجوز لنا أن نعطى أحداً من المقسوم عليهم خمسة خمسة، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء. والواو تدل على مطلق الجمع، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاؤا مختلفين في تلك الأعداد، وإن شاؤا متفقين فيها محظوراً عليهم ما زاد. وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد، كما يجوز التسري بلا عدد. وليست الآية تدل على توقيت في العدد، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحداً واثنين وثلاثاً. وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين، ولا يقتضي الاقتصار عليه. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع، لأن الواو تقتضي الجمع. فمعنى : مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثاً وأربعاً وذلك تسع، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلّم مات عن تسع. وذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر. والكلام على هذه الأقوال استدلالاً وإبطالاً مذكور في كتب الفقه الخلافية.
وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع. والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه، أما مَن لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور. أجمع المسلمون على أنَّ مَن لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف. فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك، وحكمها أعم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠


الصفحة التالية
Icon