الاشتغال بالنكاح، خلافاً لأبي حنيفة، إذ عكس. ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة، والحكمة سكون النفس بالأزواج، وتحصين الدين ومصالح البيت، وكل ذلك حاصل بالطريقين، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح، لأن الزائد على المتساويين يكون زائداً على المساوي الثاني لا محالة.
﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَن﴾ الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة. أدنى من الدنو أي : أقرب أن لا تعولوا، أي : أن لا تميلوا عن الحق. قاله : ابن عباس، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، والسدّي. وقال مجاهد : لا تضلوا. وقال النخعي : لا تخونوا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه لا يكثر عيالكم. وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه : غلط الشافعي، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج. وقال الزجاج : إن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ؟ وقال صاحب النظم : قال : أولاً أن لا تعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضاً الرد من جهة المعنى، فتفسير الشافعي تعولوا بتعيلوا. وقالوا : يقال أعال يعيل إذا كثر عياله، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو، فقد اختلفا في المادة، فليس معنى تعولوا تعيلوا. وقال الرازي أيضاً عن الشافعي : أنه خالف المفسرين. وما قاله ليس بصحيح، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم. وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد، نحو قولهم : دمت ودشير، وسبط وسبطة، فكذلك هذا.
وقد نقل عال الرجل يعول، أي كثر عياله ابن الأعرابي، كما ذكرناه في المفردات. ونقله أيضاً الكسائي قال : وهي لغة فصيحة. قال الكسائي : العرب تقول : عال يعول، وأعال يعيل كثر عياله، ونقلها أيضاً أبو عمرو الدوري المقري وكان إماماً في اللغة غير مدافع قال : هي لغة حمير.
وأنشد أبو عمرو حجة لها :
وإن الموت يأخذ كل حيبلا شك وأن أمشي وعالا
أمشي كثرت ماشيته، وعال كثر عياله. وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك : عال الرجل عياله يعولهم. وقال : لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا.
قال : ولكن للعلماء طرقاً وأساليب، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات. وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية : هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة.
وقال الزمخشري : الغرض بالتزوج التوالد والتناسل، بخلاف التسري. ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع. وقال القفال : إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً، وتقل العيال. أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى. وروي عن الشافعي أيضاً أنه فسر قوله تعالى : أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر، إنما يريد أيضاً الكناية، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر. والظاهر أن المعنى : أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور، إذا هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور. أي : عبر عن قوله : أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم، فإنه عبر عن المسبب بالسبب، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله :﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ وقال الشاعر :
١٦٥
فما يدري الفقير متى غناهولا يدري الغني متى يعيل
وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف، إذ التقدير : أدنى إلى أن لا تعولوا. وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه. تقول : دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا. ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر، لأنك تقول : دنوت لكذا.


الصفحة التالية
Icon