﴿تَعُولُوا * وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ الظاهر : أن الخطاب للأزواج، لأن الخطاب قبله لهم، قاله : ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج. قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني فتقول : نعم. فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور. وقيل : الخطاب لأولياء النساء، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام. قاله : أبو صالح، واختاره : الفراء وابن قتيبة. وقيل : المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى، وأمروا بضرب المهور قاله : حضرمي، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها.
والصدقات المهور. قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة : نحلة فريضة. وقيل : عطية تمليك قاله الكلبي والفراء. وقيل : شرعة وديناً قاله : ابن الأعرابي. قال الراغب : والنحلة أخص من الهبة، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي. ومن قال : النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى. ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في :﴿وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ﴾، وأنهما متساويان في التحريم. ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية.
وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة، على وزن سمرة. وقرأ قتادة وغيره : بإسكان الدال وضم الصاد. وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم : بضمها. وقرأ النخعي وابن وثاب : صدقتهن بضمها والافراد، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر، لأن معنى : وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا. وقيل : بانحلوهن مضمرة. وقيل : مصدر في موضع الحال، إما عن الفاعلين أي ناحلين، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي : منحولات. وقيل : انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع، أي : أنحل الله ذلك نحلة، أي شرعه شرعة وديناً. وقيل : إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله، أو حال من الصدقات. وفي قوله : وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق : أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق، ولا لشيء من أحكامه. وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِياًا مَّرِياًا﴾ الخطاب فيه الخلاف : أهو للأزواج ؟ أو للأولياء ؟ وهو مبني على الخلاف في : وآتوا النساء. وقال حضرمي : سبب نزولها أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات، والضمير في : منه، عائد على الصداق قاله : عكرمة. إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزاً وصار شبيهاً بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية، هو أحسن فتى. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد، فيكون متناولاً بعضه. فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعداً انتهى. وأقول : حسن تذكير الضمير، لأن معنى : فإن طبن، فإن طابت كل واحدة، ولذلك
١٦٦
أفرد متكأ. وقيل : يعود على صدقاتهن مسلوكاً به مسلك اسم الإشارة، كأنه قيل عن شيء من ذلك. واسم الإشارة وإن كان مفرداً قد يشار به إلى مجموع كقوله :﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ﴾. وقد تقدّمت عليه أشياء كثيرة. وقيل : لرؤبة كيف قلت : كأنه في الجلد توليع البهق، وقد تقدم، فيها خطوط من سواد وبلق. فقال : أردت كان ذاك. وقيل : يعود على المال، وهو غير مذكور، ولكن يدل عليه صدقاتهن. وقيل : يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه : وآتوا، قاله الراغب، وذكره ابن عطية. ويتعلق المجروران بقوله : طبن، ومنه في موضع الصفة لشيء، فيتعلق بمحذوف، وظاهر من التبعيض. وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضاً من الصداق، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير. وقال ابن عطية : ومن تتضمن الجنس هاهنا. وكذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك.


الصفحة التالية
Icon