وانتصب نفساً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من الفاعل. وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصباً عن تمام الجملة، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقه في الجمعية نحو : كرم الزيدون رجالاً، كما يطابق لو كان خبراً، وإن كان مخالفاً، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أو مختلفة، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو فلان أصلاً وأباً. وكقولك : زكاة الأتقياء، وجاد الأذكياء وعياً. وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله. وإن كان مختلف المدلول، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد، أو لا يلبس. فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء، أي : كرم آباء الزيدين. ولو قلت : كرم الزيدون أباً، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم. وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع. والإفراد أولى، كقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة. وقرّ الزيدون عيناً، ويجوز أنفساً وأعيناً. وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده، وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفساً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
وقال بعض البصريين : أراد بالنفس الهوى. والهوى مصدر، والمصادر لا تثني ولا تجمع. وجواب الشرط : فكلوه، وهو أمر إباحة. والمعنى : فانتفعوا به. وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع.
وهنيئاً مريئاً أي : شافياً سائغاً. وقال أبو حمزة : هنيئاً لا إثم فيه، مريئاً لأداء فيه. وقيل : هنيئاً لذيذاً، مريئاً محمود العاقبة. وقيل : هنيئاً مريئاً أي ما لا تنغيص فيه. وقيل : ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه. وقيل : هنيئاً مريئاً أي : حلالاً طيباً. وقرأ الحسن والزهري : هنياً مرياً دون همزة، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء، وأدغموا فيها ياء المدّ. وانتصاب هنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي : فكلوه أكلاً هنيئاً، أو على أنه حال من ضمير المفعول، هكذا أعربه الزمخشري وغيره. وهو قول مخالف لقول أئمة العربية، لأنه عند سيبويه وغيره : منصوب بإضمارفعل لا يجوز إظهاره. وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله : فكلوه هنيئاً مريئاً، ولا تعلق له به من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. وجماع القول في هنيئاً : أنها حال قائمة مقام الفاعل الناصب لها. فإذا قيل : إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت، وأقيم هنيئاً مقامه. واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك. فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت، وهنيئاً حال من ذلك، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك. وإذا قلت : هنيئاً ولم تقل له ذلك، بل اقتصرت على قولك : هنيئاً، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة. وذهب الفارسي
١٦٧
إلى أن ذلك إذا قلت : هنيئاً له، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف، لأنه صار عوضاً منه، فعمل عمله. كما أنك إذا قلت : زيد في الدار، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر، لأنه عوض منه. ولا يكون في هنيئاً ضمير، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة. وإذا قلت : هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها، وهو الضمير فاعلاً لثبت، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل. وإذا قلت : هنيئاً مريئاً، فاختلفوا في نصب مريء. فذهب بعضهم : إلى أنه صفة لقولك هنيئاً، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي. وذهب الفارسي : إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً، فالتقدير عنده : ثبت مريئاً، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه، والفعل لا يوصف، فكذلك لا يوصف هو. وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر، أو حال من الضمير في فكلوه أي : كلوه وهو هنيء مريء. قال : وقد يوقف على فكلوه، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر، كأنه قيل : هنئاً مرئاً انتهى. وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر، ولذلك قال : كأنه قيل هنأ مرأ، فصار كقولك : سقياً ورعياً، أي : هناءة ومراءة. والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف. إما على الحال، وإما على الوصف. ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر. والمراد بها : الدعاء. أجاز ذلك فيها تقول : سقياً لك ورعياً، ولا يجوز سقياً الله لك، ولا رعياً الله لك، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول : سقاك الله ورعاك. والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر :


الصفحة التالية
Icon