وقرأ ابن مسعود : فإن أحستم، يريد أحسستم. فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة. وحكى غير سيبويه : أنها لغة سليم، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمال وعيسى الثقفي : رَشَداً بفتحتين. وقرىء شاذاً : رُشُداً بضمتين، ونكر رشداً لأن معناه نوع من الرشد، وطرف ومخيلة من مخيلته، ولا ينتظر به تمام الرشد. قال ابن عطية ومالك : يرى الشرطين : البلوغ والرشد، وحيئنذ يدفع المال. وأبو حنيفة : يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد. وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول، وخوف العنت. والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح، وذلك أنّ البلوغ لم تسقه الآية سبباً في الشرط، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه. فقال : إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو : الرشد حينئذ. وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا، والمشروط جاء بإن التي هي قاعدة حروف الشرط. وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر. وقال : فعلوا ذلك مضطرين، وإنما جوزى بها لأنها تحتاج إلى جواب، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً. واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها. ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمرّ البسر، ولا تقول : إن احمرّ البسر انتهى كلامه. ودل كلامه على أنّ إذا ظرف مجرّد من معنى الشرط، وهذا مخالف لكلام النحويين. بل النحويون كالمجمعين على أنّ إذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالباً، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط، لا نفي كونها تأتي للشرط. وكيف تقول ذلك، والغالب عليها أنها تكون شرطاً ؟ ولم تتعرّض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ، ودفع إليه ماله، ثم عاد إلى السفه، أيعود الحجر عليه أم لا ؟ وفيه قولان : قال مالك : يعود. وقال أبو حنيفة : لا يعود، والقولان عن الشافعي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
﴿وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ﴾ تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ. وهذه الجملة مستقلة. نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف، وليست معطوفة على جواب الشرط، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح. وهو معارض لقوله : وبداراً أن يكبروا، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه، وذلك ممتنع. وبهذا الذي قرّرناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفاً على فادفعوا، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما، فيكون من باب دليل الخطاب. والإسراف : الإفراط في الإنفاق، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق. قال :
أعطوا هنيدة تجدوها ثمانيةما في عطائهم منّ ولا سرف
أي : ليس يخطئون مواضع العطاء. قال ابن عباس وغيره : ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله.
وانتصب إسرافاً وبداراً على أنهما مصدران في موضع الحال، أي : مسرفين ومبادرين. والبدار مصدر بادر، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين. لأن اليتيم مبادر إلى الكبر، والولي مبادر إلى خذ ماله، فكأنهما مستبقان. ويجوز أن يكون من واحد، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله، أي : لإسرافكم ومبادرتكم. وإن يكبروا مفعول بالمصدر، أي : كبركم كقوله :﴿إِطْعَـامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا﴾ وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف. وقيل : التقدير مخافة أن يكبروا، فيكون أن يكبروا مفعولاً من أجله، ومفعول بداراً محذوف.
﴿وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْا وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنياً، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيراً، بحيث يأخذ قوتاً محتاطاً في تقديره.
وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسد جوعته بما لا يكون رفيعاً من الثياب، ولا يقضي إذا أيسر قاله : ابراهيم، وعطاء، والحسن، وقتادة، وعلى هذا القول الفقهاء. وقال عمرو، ابن عباس، وعبيدة، والشعبي، ومجاهد، وأبو العالية، وابن جبير : يقضي إذا أيسر، ولا يستلف أكثر من حاجته. وبه قال الأوزاعي. وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية، والحسن، والشعبي : إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن، وأكل من التمر، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض، ويجد التمر وما أشبهه. فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠


الصفحة التالية
Icon