إنها تعليق في المستقبل، وأنها بمعنى إن. وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم، فلذلك قال : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا، فلم تدخل لو على مستقبل، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر. وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى، واقعة بالفعل. إذ معنى : لو تركوا من خلفهم، أي ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى : أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل. أما إذا كان ماضياً على تقدير يصح أن يقع صلة، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك : ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه. وأصل لو أن تكون تعليقاً في الماضي، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى : إن، إلا إذ دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم. لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله : لا يلفك. وكذلك قوله :
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهمدون النساء ولو بانت بإطهار
لدخول ما بعدها في حيز إذا، وإذا للمستقبل. ولو قال قائل : لو قام زيد قام عمر، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل. ومن خلفهم متعلق بتركوا. وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية.
وقرأ الجمهور ضعافاً جمع ضعيف، كظريف وظراف. وأمال فتحة العين حمزة، وجمعه على فعال قياس. وقرأ ابن محيصن : ضعفاً بضمتين، وتنوين الفاء. وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضاً : ضعفاء بضم الضاد والمد، كظريف وظرفاء، وهو أيضاً قياس. وقرىء ضعافى وضعافى بقالإمالة، نحو سكارى وسكارى. وأمال حمزة خافوا للكسرة التي تعرض له في نحو : خفت. وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولاً بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم، وهي الحاملة على التقوى، ثم أمر بالتقوى ثانياً وهي متسببة عن الخشية، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه. ثم أمر بالقول السديد، وهو ما يظهر من الفعل الناشىء عن التقوى الناشئة عن الخشية. ولا يراد تخصيص القول السديد فقط، بل المعنى على الفعل والقول السديدين. وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان، كأنه قيل : أقل ما يسلك هو القول السديد. قال مجاهد : يقولون للذين يفرقون المال زد فلاناً وأعط فلاناً. وقيل : هو الأمر بإخراج الثلث فقط. وقيل : هو تلقين المحتضر الشهادة. وقيل : الصدق في الشهادة. وقيل : الموافق للحق. وقيل : للعدل. وقيل : للقصد. وكلها متقاربة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
والسداد : الاستواء في القول والفعل. وأصل السد إزالة الاختلال. والسديد يقال في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول. ورجل سديد متردد بين المعنيين، فإنه يسدّد من قبل متبوعه، ويسدّد لتابعه.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء، قاله : ابن زيد. وقيل : في حنظلة بن الشمردل، ولي يتيماً فأكل ماله. وقيل : في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله، قاله : مقاتل. وقال الأكثرون : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصياً وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبران هي الجملة من قوله : إنما يأكلون. وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً، لأن وفي ذلك خلاف. وحسن ذلك هنا تباعدهما بكون اسم إنّ موصولاً، فطال الكلام بذكر صلته. وفي بطونهم : معناه ملء بطونهم يقال : أكل في بطنه، وفي بعض بطنه. كما قال :
١٧٨
كلوا في بعض بطنكم تعفوافإن زمانكم زمن خميص
والظاهر : تعلق في بطونهم بيأكلون، وقاله الحوفي. وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من قوله : ناراً. ونبّه بقوله : في بطونهم على نقصهم، ووصفهم بالشره في الأكل، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن. وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر ؟
تراه خميص البطن والزاد حاضر
وقول الشنفري :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكنبأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وظاهر قوله : ناراً أنهم يأكلون ناراً حقيقة. وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"رأيت قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحراً من نار يخرج من أسافلهم، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ويأكلهم النار حقيقة" قالت طائفة : وقيل : هو مجاز، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان. ولذلك قال :﴿لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.


الصفحة التالية
Icon