﴿مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّا وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ﴾ الضمير في يوصي عائد على رجل، كما عاد عليه في : وله أخ. ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هو الموروث لا الوارث. ومن فسر قوله :﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ﴾ أنه هو الوارث لا الموروث، جعل الفاعل في يوصي عائداً على ما دل عليه المعنى من الوارث. كما دل المعنى على الفاعل في قوله :﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ لأنه علم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث، لا الوارث. والمراد : غير مضار، ورثته بوصيته أو دينه. ووجوه المضارة كثيرة : كان يوصي بأكثر من الثلث، أو لوارثه، أو بالثلث، أو يحابى به، أو يهبه، أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وشبهه فراراً عن وارث محتاج، أو يقر بدين ليس عليه. ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لا بعد مضاراً، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله :﴿مِنا بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ﴾ ويكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآية المتأخرة. قال ابن عباس : الضرار في الوصية من الكبائر،
١٩٠
ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلّم. وعنه صلى الله عليه وسلّم من حديث أبي هريرة :"من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم". وقال قتادة : نهى الله عن الضرار في الحياة وعند الممات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٠
قالوا : وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصي، والعامل فيهما يوصي. ولا يجوز ما قالوه، لأن فيه فصلاً بين العامل والمعمول بأجنبي منهما وهو قوله : أو دين. لأن قوله : أو دين، معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال. ولو كان على ما قالوه من الأعراب لكان التركيب من بعد وصية يوصي بها غير مضار أو دين. وعلى قراءة من قرأ : يوصَى بفتح الصاد مبنياً للمفعول، لا يصح أن يكون حالاً لما ذكرناه، ولأنّ المضار لم يذكر لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف. لو قلت : تُرسل الرياح مبشراً بها بكسر الشين، لم يجز وإن كان المعنى يرسل الله الرياح مبشراً بها. والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى، ويكون عاماً لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين، وتقديره : يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب. وقيل : يضمر يوصي لدلالة يوصي عليه، كقراءة يسبح بفتح الباء. وقال رجال : أي يسبحه رجال. وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد أي : يوصيكم الله بذلك وصية، كما انتصب ﴿لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾.
وقال ابن عطية : هو مصدر في موضع الحال، والعامل يوصيكم. وقيل : هو نصب على لخروج من قوله :﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ﴾ أو من قوله :﴿فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ﴾ وجوز هو والزمخشري نصب وصية بمضار على سبيل التجوز، لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية، لكنه ما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية. ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن غير مضار وصية، فخفض وصية بإضافة مضار إليه، وهو نظير يا سارق الليلة المعنى : يا سارقي في الليلة، لكنه اتسع في الفعل فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به، وكذلك التقدير في هذا غير مضار في : وصية من الله، فاتسع وعدي اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ عليم بمن جار أو عدل، حليم عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة قاله : الزمخشري. وفيه دسيسة الاعتزال أي : أنّ الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بد له منها. والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذ بالذنب كما يقوله أهل السنة. وعلى قولهم يكون هذا الوصف يدل على الصفح عنه البتة. وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله : عليم، ودل على اطلاعه على ما يفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه، وأنّ ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته، أعقب ذلك بالصفة الدالة على الصفح عمن شاء، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب، إلا ويردف بما دل على العفو. وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت، فإن كان بغير واسطة فهو النسب أو الزوجية، أو بواسطة فهو الكلالة. فتقدّم الأول على الثاني لأنه ذاتي، والثاني عرض، وأخّر الكلالة عنهما لأن الاثنين لا يعرض لهما سقوط بالكلية، ولكون اتصالهما بغير واسطة، ولأكثرية المخالطة. انتهى ملخصاً من كلام الرازي في تفسيره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٠


الصفحة التالية
Icon