الذين يقيمون الحدود وينهون عن الفواحش ؟ أقوال ثلاثة. والظاهر أن الإمساك في البيوت إلى الغاية المذكورة كان على سبيل الحدِّ لهن، وأنَّ حدهن كان ذلك حتى نسخ، وهو الصحيح، قاله : ابن عباس، والحسن. والحبس في البيت آلم وأوجع من الضرب والإهانة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك أخذ المهر على ما ذكره السدي، لأن ألم الحبس مستمر، وألم الضرب يذهب. قال ابن زيد : منعن من النكاح حتى يمتن عقوبة لهن حين طلبن النكاح من غير وجهه. وقال قوم : ليس بحدٍ بل هو إمساك لهن بعد أن يحدهنّ الإمام صيانة لهن أن يقعن في مثل ما جرى لهن بسبب الخروج من البيوت، وعلى هذا لا يكون الإمساك حداً. وإذا كان يتوفى بمعنى يميت، فيكون التقدير حتى يتوفاهن ملك الموت. وقد صرح بهذا المضاف المحذوف، وهنا في قوله : قل يتوفاكم ملك الموت. وإن كان المعنى بالتوفي الأخذ، فلا يحتاج إلى حذف مضاف، إذ يصير التقدير : حتى يأخذهن الموت. والسبيل الذي جعله الله لهن مبني على الاختلاف المراد بالآية. فقيل : هو النكاح المحصن لهن المغنى عن السفاح، وهذا على تأويل أن الخطاب للأولياء أو للأمراء أو القضاة، دون الأزواج. وقيل : السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد، وهو ﴿ ﴾ رمى بالحجارة. وثبت تفسير السبيل بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلّم، فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية، ولا لأنه الجلد، بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وهو مخصص لعموم آية الجلد. وعلى هذا لا يصح طعن أبي بكر الرازي على الشافعي في قوله : إن السنة لا تنسخ القرآن، بدعواه أنَّ آية الحبس منسوخة، بحديث عبادة، وحديث عبادة منسوخ بآية الجلد، فيلزم من ذلك نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن، خلاف قول الشافعي، بل البيان والتخصيص أولى من ادعاء نسخ ثلاث مرات على ما ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة، إذ زعموا أن آية الحبس منسوخة بالحديث، وأن الحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد منسوخة بآية الرجم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا * وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ فَـاَاذُوهُمَا ﴾ تقدم قول مجاهد واختيار أبي مسلم أنها في اللواطة، ويؤيده ظاهر التثنية. وظاهر منكم إذ ذلك في الحقيقة هو للذكور، والجمهور على أنها في الزناة الذكور والإناث. واللذان أريد به الزاني والزانية، وغلب المذكر على المؤنث، وترتب الأذى على إتيان الفاحشة وهو مقيد بالشهادة على إتيانها. وبين ذلك في الآية السابقة وهو : شهادة أربعة. والأمر بالأذى بدل على مطلق الأذى بقول أو فعل أو بهما.
فقال ابن عباس : هو النيل باللسان واليد، وضرب النعال وما أشبهه. وقال قتادة والسدي : هو التعبير والتوبيخ. وقال قوم : بالفعل دون القول. وقالت فرقة : هو السب والجفا دون تعيير. وقيل : الأذى المأمور به هو الجمع بين الحدين : الجلد والرجم، وهو قول علي، وفعله في الهمدانية : جلدها ثم رجمها.
وظاهر قوله : واللذان يأتيانها العموم. وقال قتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الرجل والمرأة البكرين، وأما الأولى ففي النساء المزوجات، ويدخل معهن في ذلك من أحصن من الرجال بالمعنى. ورجح هذا القول الطبري. وأجمعوا على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد، إلا في تفسير على الأذى فلا نسخ، وإلا في قول من قال : إن الأذى بالتعيير مع الجلد باق فلا نسخ عنده، إذ لا تعارض، بل يجمعان على شخص واحد. وإذا حملت الآيتان على الزنا تكون الأولى قد دلت على حبس الزواني، والثانية على إيذائها وإيذائه، فيكون الإيذاء مشتركاً بينهما، والحبس مختص بالمرأة فيجمع عليها الحبس والإيذاء، هذا ظاهر اللفظ. وقيل : جعلت عقوبة المرأة الحبس لتنقطع مادة هذه المعصية، وعقوبة الرجل الإيذاء، ولم يجعل
١٩٦
الحبس لاحتياجه إلى البروز والاكتساب. وأما على قول قتادة والسدي : من أن الأولى في الثيب والثانية في البكر من الرجال والنساء، فقد اختلف متعلق العقوبتين، فليس الإيذاء مشتركاً. وذهب الحسن إلى أن هذه الآية قبل الآية المتقدمة، ثم نزل ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ﴾ يعني إن لم يتبن وأصررن فامسكوهن إلى إيضاح حالهن، وهذا قول يوجب فساد الترتيب، فهو بعيد. وعلى هذه الأقوال يظهر للتكرار فوائد. وعلى قول قتادة والسدي : لا تكرار، وكذلك لا تكرار على قول : مجاهد وأبي مسلم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢


الصفحة التالية
Icon