ومعنى من قريب : أي من زمان قريب. والقرب هنا بالنسبة إلى زمان المعصية، وهي بقية مدة حياته إلى أن يغرغر، أو بالنسبة إلى زمان مفارقة الرّوح. فإذا كانت توبته تقبل في هذا الوقت فقبولها قبله أجدر، وقد بين غاية منع قبول التوبة في الآية بعدها بحضور الموت. وقيل : قبل أن يحيط السوء بحسناته، أي قبل أن تكثر سيئاته وتزيد على حسناته، فيبقى كأنه بلا حسنات. وقيل : قبل أن تتراكم ظلمات قلبه بكثرة ذنوبه، ويؤديه ذلك إلى الكفر المحيط. وقال عكرمة والضحاك ومحمد بن قيس وأبو مجلز وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق. وقال ابن عباس والسدي : قبل المرض والموت. فذكر ابن عباس أحسن أوقات التوبة، وذكر من قبله آخر وقتها. وقال ابن عباس أيضاً : قبل أن ينزل به سلطان الموت، وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلّم :"أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض : وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده، فقال : وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر. قيل : وسميت هذه المدة قريبة لأن الأجل آتِ، وكل ما هو آت قريب. وتنبيهاً على أن مدة عمر الإنسان وإن طالت فهي قليلة قريبة، ولأنّ الإنسان يتوقع كل لحظة نزول الموت به، وما هذه حاله فإنه يوصف بالقرب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
وارتفاع التوبة على الابتداء، والخبر هو على الله، وللذين متعلق بما يتعلق به على الله، والتقدير : إنما التوبة مستقرة على فضل الله وإحسانه للذين. وقال أبو البقاء : في هذا الوجه يكون للذين يعملون السوء حالاً من الضمير في قوله : على الله، والعامل فيها الظرف، والاستقرار أي ثابتة للذين انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف. وأجاز أبو البقاء أن يكون الخبر للذين، ويتعلق على الله بمحذوف، ويكون حالاً من محذوف أيضاً والتقدير : إنما التوبة إذا كنت، أو إذ كانت على الله. فإذا وإذ ظرفان العامل فيهما للذين، لأن الظرف يعمل فيه المعنى وإن تقدم عليه. وكان تامة، وصاحب الحال ضمير الفاعل لكان. قال : ولا يجوز أن يكون على الله حالاً يعمل فيها للذين، لأنه عامل معنوي، والحال لا يتقدم على المعنوي. ونظير هذه المسألة قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطباً انتهى. وهو وجه متكلف في الإعراب، غير متضح في المعنى، وبجهالة في موضع الحال أي : مصحوبين بجهالة. ويجوز عندي أن تكون باء السبب أي الحامل لهم على عمل السوء هو الجهالة، إذ لو كانوا عالمين بما يترتب على المعصية متذكرين له حالة
١٩٨
إتيان المعصية ما عملوها كقوله ﴿الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ لأن العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مسلوباً. ومن في قوله : من قريب، تتعلق بيتوبون، وفيها وجهان : أحدهما : أنها للتبعيض، أي بعض زمان قريب، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب. والثاني : أن تكون لابتداء الغاية، أي يبتدىء التوبة من زمان قريب من المعصية لئلا يقع في الإصرار. ومفهوم ابتداء الغاية : أنه لو تاب من زمان بعيد فإنه يخرج عن من خصّ بكرامة ختم قبول التوبة على الله المذكورة في الآية بعلى، في قوله : على الله. وقوله : يتوب الله عليهم، ويكون من جملة الموعودين بكلمة عسى في قوله : فأولئك ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾.
ودخول من الابتدائية على الزمان لا يجيزه البصريون، وحذف الموصوف هنا وهو زمان، وقامت الصفة التي هي قريب مقامه، ليس مقيساً. لأن هذه الصفة وهي القريب ليست من الصفات التي يجوز حذفها بقياس، لأنها ليست مما استعملت استعمال الأسماء، فلم يلفظ بموصوفها كالأبطح، والأبرق، ولا مختصة بجنس الموصوف نحو : مررت بمهندس، ولا تقدم ذكر موصوفها نحو : اسقني ماء ولو بارداً، وما لم يكن كذلك مما كان الوصف فيه اسماً وحذف فيه الموصوف وأقيمت صفته مقامه فليس بقياس.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢


الصفحة التالية
Icon