وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهم أحياء، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم. فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك مشبعاً في سورة آل عمران. وقال الزمخشري : نفي للغفران والهداية، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام، والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى. وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم، واللام للتأكيد زيدت في النفي، والمنفي هو القيام، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة. والبصريون يقولون : النصب بإضمار أنْ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر، وذلك المصدر لا يصح أنْ يكون خبراً، لأنه معنى والمخبر عنه جثة. ولكن الخبر محذوف، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة. وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوص من أن المحذوفة، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة. ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٧
﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم. ومعنى : بشر أخبر، وجاء بلفظ بشر على سبيل التهكم بهم نحو قوله :﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي القائم لهم مقام البشارة، هو الإخبار بالعذاب كما قال :﴿تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾. وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحاً بفيدها، فلذلك حسن استعمالها في المكروه. ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب. وفي هذه الآية دليل على أنّ التي قبلها إنما هي في المنافقين. وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أنّ قوله :﴿خَبِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا ﴾ في أهل النفاق والمراءاة، لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية. ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين.
﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي : اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصاراً ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين وهي : موالاتهم الكفار، واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة. والذين : نعت للمنافقين، أو نصب على الذم، أو رفع على خبر المبتدأ. أي : هم الذين.
٣٧٣
﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ أي : الغلبة والشدّة والمنعة بموالاتهم، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد. وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم ؟ وعلى خبث مقصدهم. وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم.
﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم. قال تعالى :﴿كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾. وقال :﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى :﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط، والمعنى : أنْ تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة، وانتصب جميعاً على الحال.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٧
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا ﴾ الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق. وقيل : للمنافقين الذين تقدّم ذكرهم، ويكون التفاتاً. وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم، فنهوا عن ذلك، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله :﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِا﴾.


الصفحة التالية
Icon