﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون. وهي من باب المفاعلة، يرى المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة، وهم يرونه استحسان ذلك العمل. وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل، نحو نعمة وناعمة. وروى أبو زيد : رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها. وقرىء : يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو. وقال ابن عطية : وهي أقوى في المعنى من يراؤون، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق. ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق إلا
٣٧٧
أنه قالقرأ : يرؤنهم همزة مشددة مثل : يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم، ويراؤونهم كذلك.
﴿وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا﴾ قال الحسن : قل لأنه كان يعمل لغير الله. وقال قتادة : ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله، وما رده الله فكثيره قليل، وما قبله فقليله كثير. وقال غيره : قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر. وقال الزمخشري : إلا قليلاً، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به، وما يجاهرون به قليل، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه، أولاً يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً. ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى. ولا يجوز أنْ يراد به العدم، لأن الاستثناء يأباه، وقد رددنا هذا القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة. وقيل : قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها، وذلك ﴿قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾، وقيل في الكلام حذف تقديره : ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلاً لاستغراقهم في الدنيا، وغلبة الغفلة على قلوبهم. والظاهر أنّ الذكر هنا هو باللسان، وأنهم قلَّ أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص، فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٦
﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ﴾ أي مقلقين. قال الزمخشري : ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر يتردّدون بينهما متحيرين، كأنه يذب عن كلا الجانبين أي يذاد فلا يقر في جانب واحد، كما يقال : فلان يرمي به الرحوان، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب، كان المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى. ونسب الذبذبة إلى الشيطان، وأهل السنة يقولون : إنّ هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله. وفي الحديث :"مثل المنافق مثل الشاة العابر بين الغنيمن" والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان كما قال تعالى :﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَالِكَ﴾ أي بين البكر والفارض.
وقال ابن عطية : وأشار إليه وإنْ لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له، كما جاء :﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ انتهى وليس كما ذكر، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدرين اللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين، فهو من باب : إذا نهى السفيه جرى إليه.
وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد : مذبذبين بكسر الذال الثانية، جعلاه اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى. وقرأ أُبي : متذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطرب، وكذا في مصحف عبد الله. وقرأ الحسن : مذبذبين بفتح الميم والذالين. قال ابن عطية : وهي قراءة مردودة. انتهى. والحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه، فلا ينبغي أن ترد قراءته، ولها وجه في العربية، وهو أنه أتبع
٣٧٨
حركة الميم بحركة الذال، وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمة في مثل منتن وبينهما حاجز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى، وكذلك اتبعوا حركة عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفع فقالوا : منحدر، وهذا أولى لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال، وهذا كله توجيه شذوذ. وعلى تقدير صحة النقل عن الحسن أنه قرأ بفتح الميم. وقرأ أبو جعفر : مدبدبين بالدال غير معجمة، كأن المعنى : أخذتهم تارة بدبة، وتارة في دبة، فليسوا بماضين على دبة واحدة. والدبة الطريقة، وهي في حديث ابن عباس :"اتبعوا دبة قريش، ولا تفارقوا الجماعة" ويقال : دعني ودبتي، أي طريقتي وسجيتي. قال الشاعر :
طها هذريان قل تغميض عينهعلى دبة مثل الخنيق المرعبل
وانتصاب مذبذبين على الحال من فاعل يراؤون، أو فاعل ولا يذكرون. وقال الزمخشري : مذبذبين : إمّا حال من قوله : ولا يذكرون عن واو يراؤونهم، أي يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو منصوب على الذم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٦
﴿لا إِلَى هَـؤُلاءِ وَلا إِلَـاى هَـا ؤُلاءِ﴾ والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون، وبالآخر الكافرون. والمعنى : لا يعتقدون الإيمان فيعدوا من المؤمنين، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين. ويتعلق إلى بمحذوف تقديره : ولا منسوبين إلى هؤلاء، وهو موضع الحال.
﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَه سَبِيلا﴾ أي فلن تجد لهدايته سبيلاً، أو فلن تجد سبيلاً إلى هدايته.