﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لما كان هذا الوصف من أوصاف المنافقين، وتقدم ذمهم بذلك، نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف. وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : من نتولى ؟ فقال :. وقال القفال : هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء انتهى. فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان ؟ وقال ابن عطية : خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، وفي اللفظ رفق بهم وهو المراد بقوله : أتريدون أن هذا التوفيق إنما هو لمن ألمّ بشيء من العقل المؤدّي إلى هذه الحال، والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك. ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : من دون المؤمنين، أي : والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه انتهى. قيل : وفي الآية دليل على أنّ الكفار لا يستحق على المسلم ولاية بوجه ولداً كان أو غيره، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة وولاية كقوله تعالى :﴿ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع، وفي دفع المال إليه مضاربة.
﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾ أي حجة ظاهرة واضحة بموالاتكم الكافرين أو المنافقين على قول القفال. والمعنى : أنه يأخذكم إن واليتم الكفار بانتقام منه، وله عليكم في ذلك الحجة الواضحة، إذْ قد بين لكم أحوالهم ونهاكم عن موالاتهم. وقيل : السلطان هنا القهر والقدرة. والمعنى : أنه يسلط عليكم بسبب اتخاذكم الكفار أولياء والسلطان. قال الفراء : أنث وذكر، وبعض العرب يقول : قضت به عليك السلطان، وقد أخذت فلاناً السلطان، والتأنيث عند الفصحاء أكثر انتهى. فمن ذكر ذهب به إلى البرهان والاحتجاج، ومن أنّث ذهب به إلى الحجة، وإنما اختير التذكير هنا في الصفة وإن كان التأنيث أكثر، لأنه وقع الوصف فاصلة، فهذا هو المرجح للتذكير على التأنيث. وقال ابن عطية : والتذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وهذا مخالف لما قاله الفراء. وإذا سمي به صاحب الأمر فهو على حذف مضاف والتقدير : ذو السلطان، أي : ذو الحجة على الناس إذ هو مدبرهم والناظر في مصالحهم ومنافعهم. وقال
٣٧٩
الزمخشري : لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء سلطان حجة بينة يعني : أنّ موالاة الكافرين بينة على المنافقين. وعن صعصة بن صرحان أنه قال لابن أخ له خالص المؤمن وخالق الكافر والفاجر : فإنّ الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن، وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٦
﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ قال ابن عباس : الدرك لأهل النار كالدرح لأهل الجنة، إلا أنّ الدرجات بعضها فوق بعض، والدركات بعضها أسفل من بعض انتهى. وقال أبو عبيدة : الدركات الطبقات : وأصلها من الإدراك أي : هي متداركة متلاحقة. وقال ابن مسعود وأبو هريرة : هي من توابيت من حديد متعلقة في قعر جهنم، والنار سبع دركات، قيل : أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض، لأن لفظ النار يجمعها. وقال ابن عمر : أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. وتصديق ذلك في كتاب الله هذه الآية في المنافقين : و﴿فَإِنِّى أُعَذِّبُه عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُا أَحَدًا مِّنَ الْعَـالَمِينَ﴾ ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ﴾ وإنما كان المنافق أشدّ عذاباً من غيره من الكفار لأنه مثله في الكفر، وضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله، والمداجاة واطلاع الكفار على أسرار المسلمين فهو أشد غوائل من الكفار وأشد تمكيناً من أذى المسلمين.
وقرأ الحرميان والعربيان : في الدرك بفتح الراء. وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب : بسكونها، واختلف عن عاصم. وروى الأعمش والبرجمي : الفتح، وغيرهما الإسكان. قال أبو علي : وهما لغتان كالشمع والشمع، واختار بعضهم الفتح لقولهم : في الجمع أدراك كجمل وإجمال يعني : أنه ينقاس في فعل أفعال، ولا ينقاس في فعل. وقال عاصم : لو كان بالفتح لقيل : السفلى. قال بعضهم : ذهب عاصم إلى أنَّ الفتح إنما هو على أنه جمع دركة كبقرة وبقر انتهى. ولا يلزم ما ذكره من التأنيث، لأن الجنس المميز مفرده بهاء التأنيث، يؤنث في لغة الحجاز، ويذكر في لغة تميم ونجدة، وقد جاء القرآن بهما، إلا ما استثني لأنه يتحتم فيه التأنيث أو التذكير، وليس دركة ودرك من ذلك، فعلى هذا يجوز تذكير الدرك وتأنيثه.