ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت، فدلوا عليه وحضروا ليلاً وهم ثلاثة عشر، أو ثمانية عشر، ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه، فرفع عيسى، وألقى شبهه على الرجل فصلب. وقيل : هو اليهودي الذي دل عليه. وقيل : قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء، وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا، فألقي عليه شبه عيسى. وقيل : ألقي شبهه على الجميع، فلما أخرجوا نقص واحد من العدّة، فأخذوا واحداً ممن عليه الشبه فصلب. وروي أنّ الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر، فصلب ذلك الشخص، وأبعد الناس عن خشبته أياماً حتى تغير، ولم تثبت له صفة، وحينئذ دنا الناس منه، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق أن عيسى صلب. وقيل : لم يلق شبهه على أحد، وإنما معنى : ولكن شبه لهم، أي شبه عليهم الملك المخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة، وكان بادر بصلب واحد وأبعد الناس عنه، وقال : هذا عيسى، وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم. أمّا أن يلقى شبهه على شخص، فلم يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيعتمد عليه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٦
وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافاً كثيراً. فقيل : اليهودي الذي دل عليه. وقيل : خليفة قيصر الذي كان محبوساً عنده. وقيل : واحد من اليهود. وقيل : دخل ليقتله. وقيل : رقيب وكلته به اليهود. وقيل : ألقى الشبه على كل الحواريين. وقيل : ألقى الشبه على الوجه دون البدن، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك. ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إنّ الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة. وقيل : سبب اجتماع اليهود على قتله هو أنّ رهطاً منهم سبوه وسبوا أمّه فدعا عليهم :"اللهم أنت ربي، وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي" فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله. وشبه مسند إلى الجار والمجرور كقوله : خيل إليه، ولكن وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي : ولكن شبه لهم من قتلوه. ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح، لأن المسيح مشبه به لا مشبه.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْه مَا لَهُم بِهِا مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ اختلف فيه اليهود فقال بعضهم : لم يقتل ولم يصلب، الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره. وقيل : أدخلوا عليه واحداً ليقتله، فألقى الشبه عليه فصلب، ونقص من العدد واحد. وكانوا علموا عدد الحواريين فقالوا : إنْ كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى ؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا ؟ وقيل : قال العوامّ : قتلنا عيسى، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ولا صلب. قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أنّ شخصاً صلب، وهل هو عيسى أم لا ؟ فليس هو من علم الحواس، فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة. والضمير في فيه عائد على القتل معناه : في قتله، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله وما بعده. وقيل : الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضاً، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه آلة. وقول بعضهم : إنه ابن الله تعالى. وقيل : اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته. وقيل : وقع القتل والصلب عليهما. وقيل : عائد على اليهود والنصارى، فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا. وقالت النصارى : هو ابن الله. وقيل : اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته، واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء. والجمهور على أنّ إلا اتباع الظنّ استثناء منقطع، لأن اتباع الظنّ ليس من جنس العلم.
٣٩٠
أي : ولكنّ اتباع الظنّ لهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٦


الصفحة التالية
Icon