﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ لما ذكر عقوبة الدنيا ذكر ما أعد لهم في الآخرة. ولما كان ذلك التحريم عامّاً لليهود بسبب ظلم من ظلم منهم، فالتزمه ظالمهم وغير ظالمهم كما قال تعالى :﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ بين أن العذاب الأليم إنما أعد للكافرين منهم، فلذلك لم يأت وأعتدنا لهم.
﴿لَّـاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَا وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ مجيء لكنْ هنا في غاية الحسن، لأنها داخلة بين نقيضين وجزائهما، وهم : الكافرون والعذاب الأليم، والمؤمنون والأجر العظيم، والراسخون الثابتون المنتصبون المستبصرون منهم : كعبد الله بن سلام وأضرابه، والمؤمنون يعني منهم، أو المؤمنون عن المهاجرين والأنصار. والظاهر أنه عام في مَن آمن.
وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر يؤمنون لا غير، لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة. ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف، وانتصب المقيمين على المدح، وارتفع والمؤتون أيضاً على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع. ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله، لأنّ النعت إذا انقطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فكثر الوصف بأن جعل في جمل.
وقرأ ابن جبير، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعصمة عن الأعمش ويونس وهارون عن أبي عمرو : والمقيمون بالرفع نسقاً على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء. وروي أنها كذلك في مصحف أُبيّ. وقيل : بل هي فيه، والمقيمين الصلاة كمصحف عثمان. وذكر عن عائشة وأبان بن عثمان : أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف، ولا يصح عنهما ذلك،
٣٩٥
لأنهما عربيان فصيحان، قطع النعوت أشهر في لسان العرب، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره، وعلى القطع خرج سيبويه ذلك.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٤
قال الزمخشري : ولا نلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف، وربما التفت إليه من ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان، وعنى عليه : أنّ السابقين الأوّلين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفوه من يلحق بهم انتهى. ويعني بقوله : من لم ينظر في الكتاب كتاب سيبويه رحمه الله فإن اسم الكتاب علم عليه، ولجهل من يقدم على تفسير كتاب الله وإعراب ألفاظه بغير أحكام علم النحو، جوّزوا في عطف والمقيمين وجوهاً : أحدها : أن يكون معطوفاً على بما أنزل إليك، أي يؤمنون بالكتب وبالمقيمين الصلاة. واختلفوا في هذا الوجه من المعنيّ بالمقيمين الصلاة، فقيل : الأنبياء ذكره الزمخشري وابن عطية. وقيل : الملائكة ذكره ابن عطية. وقيل : المسلمون، والتقدير : وندب المقيمين، ذكر ابن عطية معناه. والوجه الثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير في منهم أي : لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين ذكره ابن عطية على قوم لم يسمهم. الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الكاف في أولئك أي : ما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة. الوجه الرابع : أن يكون معطوفاً على كاف قبلك على حذف مضاف التقدير : وما أنزل من قبلك وقيل : المقيمين الصلاة. الوجه الخامس : أن يكون معطوفاً على كاف قبلك ويعني الأنبياء، ذكره ابن عطية. وقال ابن عطية : فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق، وكان أنشده قبل وهو :
النازلين بكل معتركوالطيبون معاقد الأزر
بحرف العطف الذي في الآية، فإنه يمنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر انتهى. إنْ منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوت ذلك في كلام العرب مع حرف العطف، ولا نظر في ذلك كما قال ابن عطية. قال الشاعر :
ويأوي إلى نسوة عطلوشعث مراضيع مثل السعالى
وكذلك جوزوا في قوله تعالى : والمؤتون الزكاة، وجوهاً على غير الوجه الذي ذكرناه : من أنه ارتفع على خبر مبتدأ محذوف على سبيل قطع الصفات في المدح : أحدها : أنه معطوف على الراسخون. الثاني : على الضمير المستكن في المؤمنون. الثالث : على الضمير في يؤمنون. الرابع : أنه مبتدأ وما بعده الخبر وهو اسم الإشارة وما يليه. وأما المؤمنون بالله فعطف على والمؤتون الزكاة على الوجه الذي اخترناه في رفع والمؤتون.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٤


الصفحة التالية
Icon