ولما ذكر أولاً والمؤمنون تضمن الإيمان بما يجب أن يؤمن به، ثم أخبر عنهم وعن الراسخين أنهم يؤمنون بالقرآن وبالكتب المنزلة، ثم وصفهم بصفات المدح من امتثال أشرف أوصاف الإيمان الفعلية البدنية وهي : الصلاة، والمالية وهي الزكاة، ثم ارتقى في المدح إلى أشرف الأوصاف القلبية الاعتقادية وهي الإيمان بالموحد الذي أنزل الكتب وشرع فيها الصلاة والزكاة، وباليوم الآخر وهو البعث والمعاد الذي يظهر فيه ثمرة الإيمان وامتثال تكاليف الشرع من الصلاة والزكاة وغيرهما. ثم إنه لما استوفى ذلك أخبر تعالى أنه سيؤتيهم أجراً عظيماً وهو ما رتب تعالى على هذه الأوصاف الجليلة التي وصفهم بها، وأشار إليهم بأولئك، ليدل على مجموع تلك الأوصاف. ومن أعرب والمؤمنون بالله مبتدأ أو خبره ما بعده، فهو بمعزل عن إدراك الفصاحة. والأجود إعراب أولئك مبتدأ، ومن نصبه بإضمارفعل تفسيره ما بعده : أنه سيؤتى أولئك سنؤتيهم،
٣٩٦
فيجعله من باب الاشتغال، فليس قوله براجح، لأن زيد ضربته أفصح وأكثر من زيداً ضربته، ولأن معمول ما بعد حرف الاستقبال مختلف في جواز تقديمه في نحو : سأضرب زيداً، وإذا كان كذلك فلا يجوز الاشتغال. فالأجود الحمل على ما لا خلاف فيه. وقرأ حمزة : سيؤتيهم بالياء عوداً على قوله : والمؤمنون بالله. وقرأ باقي السبعة. على الالتفات ومناسبة وأعتدنا.
﴿إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّـانَ مِنا بَعْدِهِا﴾ قال ابن عباس : سبب نزولها أن سكين الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ولا أوحى إليه. وقال محمد بن كعب القرظي : لما نزلت :﴿يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ﴾ الآيات فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على عيسى، وجحدوا جميع ذلك فنزلت :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ إذ قالوا الآية. وقال الزمخشري : إنا أوحينا إليك جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، واحتجاجهم عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كسائر الأنبياء الذين سلفوا انتهى. وقدم نوحاً وجرده منهم في الذكر لأنه الأب الثاني، وأول الرسل، ودعوته عامّة لجميع من كان إذ ذاك في الأرض، كما أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم عامّة لجميع من في الأرض.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٤
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَـارُونَ وَسُلَيْمَـانَ﴾ خص تعالى بالذكر هؤلاء تشريفاً وتعظيماً لهم، وبدأ بابراهيم لأنه الأب الثالث، وقدم عيسى على من بعده تخفيفاً لنبوته، وقطعاً لما رآه اليهود فيه، ودفعاً لاعتقادهم، وتعظيماً له عندهم، وتنويهاً باتساع دائرته. وتقدم ذكر نسب نوح وابراهيم وهارون في نسب أخيه موسى. وأما أيوب فذكر الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن عليّ النيسابوري نسبه فقال : أيوب بن أموص بن بارح بن تورم بن العيص بن إسحاق بن ابراهيم، وأمه من ولد لوط بن هارون. وأما يونس فهو يونس بن متى. وقرأ نافع في رواية ابن جماز عنه : يونس بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب. وقرأ النخعي وابن وثاب : بفتحها وهي لغة لبعض عقيل وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون، ولغة الحجاز ما قرأ به الجمهور من ترك الهمز وضم النون.
﴿وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا﴾ أي كتاباً. وكل كتاب يسمى زبوراً، وغلب على الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود. وهو فعول بمعنى مفعول كالحلوب والركوب، ولا يطرد وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حرام ولا حلال، إنما هي حكم ومواعظ، وقد قرأت جملة منها ببلاد الأندلس. قيل : وقدم سليمان في الذكر على داود لتوفر علمه، بدليل قوله :﴿فَفَهَّمْنَـاهَا سُلَيْمَـانَا وَكُلا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ والذي يظهر أنه جمع بين عيسى وأيوب ويونس لأنهم أصحاب امتحان وبلايا في الدنيا، وجمع بين هارون وسليمان لأن هارون كان محبباً إلى بني إسرائيل معظماً مؤثراً، وأما سليمان فكان معظماً عند الناس قاهراً لهم مستحقاً له ما ذكره الله تعالى في كتابه، فجمعهما التحبيب، والتعظيم. وتأخر ذكر داود لتشريفه بذكر كتابه، وإبرازه في جملة مستقلة له بالذكر ولكتابه، فما فاته من التقديم اللفظي حصل به التضعيف من التشريف المعنوي.


الصفحة التالية
Icon