﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴾ قيل : هذه في المشركين. وقد تقدّم الكلام على لام الجحود وما بعدها، وأن الإتيان بها أبلغ من الإتيان بالفعل المجرد عنها. وهذا الحكم مقيد بالموافاة على الكفر. وقال أبو سليمان الدمشقي : المعنى لم يكن الله ليستر عليهم قبيح أفعالهم، بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقال الزمخشري : كفروا وظلموا، جمعوا بين الكفر والمعاصي، وكان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين أصحاب الكبائر، لأنه لا فرق بين الفريقين في أنه لا يغفر لهما إلا بالتوبة، ولا ليهديهم طريقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم، ولا ليهديهم يوم القيامة إلا طريقها انتهى. وهو على طريقة الاعتزال في أنّ صاحب الكبائر لا يغفر له ما لم يتب منها، وإن أريد بقوله طريقاً مخصوصاً أي عملاً صالحاً يدخلون به الجنة، كان قوله : إلا طريق جهنم استثناء منقطعاً.
﴿وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ أي انتفاء غفرانه وهدايته إياهم وطردهم في النار سهلاً لا صارف له عنه، وهذا تحقير لأمرهم، وأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي.
﴿يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَـاَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ﴾ هذا خطاب لجميع الناس. وإن كانت السورة مدنية فالمأمور به أمر عام، ولو كان خاصاً بتكليف ما لكان النداء خاصاً بالمؤمنين في الغالب. والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلّم، والحق هو شرعه، وقد فسر بالقرآن وبالدين وبشهادة التوحيد. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين. وفي انتصاب خيراً لكم هنا. وفي قوله : انتهوا خيراً لكم في تقدير الناصب ثلاثة أوجه : مذهب الجليل، وسيبويه. وأتوا خيراً لكم، وهو فعل يجب إضماره. ومذهب الكسائي وأبي عبيدة : يكن خيراً لكم، ويضمر إن يكن ومذهب الفراء إيماناً خيراً لكم وانتهاء خيراً لكم، بجعل خيراً نعتاً لمصدر محذوف يدل عليه الفعل الذي قبله. والترجيح بين هذه الأوجه مذكور في علم النحو.
﴿وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ تقدم تفسير مثل هذا.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ عليماً بما يكون منكم من كفر وإيمان فيجازيكم عليه، حكيماً في تكليفكم مع علمه تعالى بما يكون منكم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٤
﴿حَكِيمًا * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ﴾ قيل : نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل. وقال الجمهور : في عامة النصارى، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون : الأب، والابن، وروح القدس إله واحد. وقيل : في اليهود والنصارى، نهاهم عن تجاوز الحد. والمعنى : في دينكم الذي أنتم مطلوبون به، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق. وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رشده. وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلهاً. والذي يظهر أنّ قوله : يا أهل الكتاب خطاب للنصارى، بدليل آخر الآية. ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا.
﴿وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ﴾ وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد.
﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُا أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ قرأ جعفر بن محمد : إنما المسيح على وزن السكيت. وتقدم شرح الكلمة في ﴿بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾ ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها. وهذه الجملة قيل : حال. وقيل : صفة على تقدير نية الانفصال أي : وكلمة منه. ومعنى روح منه أي : صادرة، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من
٤٠٠
الأب الحي، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته. وقال أُبيّ بن كعب : عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله :﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى ﴾ بعثه الله إلى مريم فدخل. وقال الطبري وأبو روق : وروح منه أي نفخة منه، إذا هي من جبريل بأمره. وأنشد بيت ذي الرمة :
فقلت له اضممها إليك وأحيهابروحك واجعله لها قيتة قدرا


الصفحة التالية
Icon