أن الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم. وقد منع أبو عليّ وغيره سيد الجارية مالكها، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ. والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر، وهو قوله اثنتين. وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله : اثنتين يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف، فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود، فلهذا كان مفيداً وهذا الذي قالوه ليس بشيء، لأن الألف في الضمير للاثنتين يدل أيضاً على مجرد الاثنينية من غير اعتبار قيد، فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء، وصار المعنى : فإن كانتا الأختان اثنتين، ومعلوم أنّ الأختين اثنتان. وقال الزمخشري :(فإن قلت) : إلى مَن يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله : فإن كانتا اثنتين، وإن كانوا أخوة ؟ (قلت) : أصله فإن كان من يرث بالأخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالأخوة ذكوراً وإناثاً. وإنما قيل : فإن كانتا، وإن كانوا. كما قيل : من كانت أمك، فكما أنث ضمير من لمكان تأنيث الخبر، كذلك ثنى، وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا، لمكان تثنية الخبر وجمعه انتهى. وهو تابع في هذا التخريج غيره، وهو تخريج لا يصح، وليس نظير من كانت أمك، لأنَّ مَن صرّح بها ولها لفظ ومعنى. فمَن أنّث راعى المعنى، لأن التقدير : أية أم كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم، بخلاف الآية، فإنّ المدلولين واحد، . ولم يؤنث في مَن كانت أمك لتأنيث الخبر، إنّما أنث مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثاً. ألا ترى إنك تقول : من قامت فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث، ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكر. وذلك وجهان : أحدهما : إنّ الضمير في كانتا لا يعود على أختين، إنما هو يعود على الوارثتين، ويكون ثم صفة محذوفة، واثنتين بصفته هو الخبر، والتقدير : فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني : أن يكون الضمير عائداً على الأختين كما ذكروا، ويكون خبر كان محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وإن كان حذفه قليلاً، ويكون اثنتين حالاً مؤكدة والتقدير : فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك. ويدل على حذف الخبر الذي هو له وله أخت، فكأنه قيل : فإن كانت أختان له، ونظيره أن تقول : إن كان لزيد أخ فحكمه كذا، وإن كان أخوان فحكمهما كذا. تريد وإن كان أخوان له.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٥
﴿وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالا وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ﴾ يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في أرث الأولاد من أنّ للذكر مثل حظ الأنثيين. والضمير في كانوا إنْ عاد على الأخوة فقد أفاد الخبر بالتفصيل المحتوي على الرجال والنساء، ما لم يفده الاسم، لأن الاسم ظاهر في الذكور. وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهوراً واضحاً. والمراد بقوله : أخوة الأخوة والأخوات، وغلب حكم المذكر. وقرأ ابن أبي عبلة : فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾ أنْ تضلوا مفعول من أجله، ومفعول يبين محذوف أي : يبين لكم الحق. فقدره البصري والمبرد وغيره :
٤٠٨
كراهة أن تضلوا. وقرأ الكوفي، والفراء، والكسائي، وتبعهم الزجاج : لأن لا تضلوا، وحذف لا ومثله عندهم قول القطامي :
رأينا ما رأى البصراء منافآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباعا، وحكى أبو عبيدة قال : حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه :"لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجاية" فاستحسنه أي لئلا يوافق. وقال الزجاج هو مثل قوله إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا أي لأن لا تزولا ورجح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا. وقيل أن تضلوا مفعول به أي يبين الله لكم الضلالة أن تضلوا فيها. ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ﴾ يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد، وفيما كلفهم به من الأحكام. وقال أبو عبد الله الرازي : في هذه السورة لطيفة عجيبة وهي أنّ أولها مشتمل على كمال تنزه الله تعالى وسعة قدرته، وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف.


الصفحة التالية
Icon