وقيل : معنى قمتم إلى الصلاة، فصدتموها، لأنّ من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له، فعبر عن القصد له بالقيام إليه. وظاهر الآية يدل على أنّ الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهراً كان أو محدثاً، وقال به جماعة منهم : داود. وروى فعل ذلك عن عليّ وعكرمة. وقال ابن شيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة. وذهب الجمهور : إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله :﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ وكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء، وامسحوا هذين العضوين. وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد. وقال قوم منهم : السدي، وزيد بن أسلم : إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم. وقالوا : في الكلام تقديم وتأخير أي : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء أي الملامسة الصغرى فاغسلوا وجوهكم. وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه، وإنما ذكروا ذلك طلباً لأن يعم الإحداث بالذكر.
وقال قوم : الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم، وهو رخصة للرسول صلى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك، فأمر بالسواك، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث. وقال قوم : الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب، وكان كثير من الصحابة بفعله طلباً للفضل منهم : ابن عمر. وقال قوم : الوضوء عند كل صلاة كان فرضاً ونسخ. وقيل : فرضاً على الرسول خاصة، فنسخ
٤٣٤
عنه عام الفتح. وقيل : فرضاً على الأمة فنسخ عنه وعنهم. ولا يجوز أن يكون : فاغسلوا، أمر للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب، لأنّ تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية قاله الزمخشري.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٠
فاغسلوا وجوهكم، الوجه : ما قابل الناظر وحده، طولاً منابت الشعر فوق الجهة مع آخر الذقن. والظاهر أنّ اللحية ليست داخلة في غسل الوجه، لأنها ليست منه. وكذلك الأذنان عرضاً من الأذن إلى الأذن. ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك، وهو مذهب مالك، والجمهور لا يوجبونه. والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأموراً بهما في الآية في غسل الوجه، ويرون ذلك سنة. وقال مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء. وقال عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق : من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة. وقال أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق، ولا يعيد من ترك المضمضة : والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين، إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وأيديكم إلى المرافق، اليد : في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب، وقد غيا الغسل إليها. واختلفوا في دخولها في الغسل، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها، وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب. وقال الزمخشري : إلى، تفيد معنى الغاية مطلقاً، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. ثم ذكر مثلاً مما دخل وخرج ثم قال : وقوله :﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ لا دليل فيه على أحد الأمرين انتهى كلامه. وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإنّ في ذلك خلافاً. منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين : وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل، فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر. وأيضاً فإذا قلت : اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد إلى هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشتري، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء. فإذا لم يتصوّر أن يكون داخلاً إلا بمجاز، وجب أن يحمل على أنه غير داخل، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثمّ قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة. فقول الزمخشري : عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج، لا دليل فيه على أحد الأمرين، مخالف لنقل أصحابنا، إذ ذكروا أنّ النحويين على مذهبين : أحدهما : الدخول، والآخر : الخروج. وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف، ويكون من المحمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام. وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه. وقال ابن عطية : تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط بعطى أنّ الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. فالرّوايتان محفوظتان عن مالك. روى أشهب عنه : أنهما غير داخلتين،
٤٣٥
وروى غيره أنهما داخلتان انتهى. وهذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني فقال : إنْ لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.


الصفحة التالية
Icon