﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى، وتقدم مدلول الجنب في ﴿وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ﴾ والظاهر أنّ الجنب مأمور بالاغتسال. وقال عمر، وابن مسعود : لا يتيمم الجنب البتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، والجمهور على خلاف ذلك، وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور. والظاهر أنّ الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله :﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً﴾ أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيداً طيباً فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد، وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم : إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة. والظاهر أنّ الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء. ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة، ولا دلك، ولا مضمضة، ولا استنشاق، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء
٤٣٨
إليه. وقال داود وأبو ثور : يجب تقديم الوضوء على الغسل. وقال إسحاق : تجب البداءة بأعلى البدن. وقال مالك : يجب الدلك، وروى عنه محمد بن مروان الظاهري : أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك. وقال أبو حنيفة : وزفر، وأبو يوسف، ومحمد، والليث، وأحمد : تجب المضمضة والاستنشاق فيه، وزاد أحمد الوضوء. وقال النخعي : إذا كان شعره مفتولاً جدّاً يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه. وقرأ الجمهور : فاطّهروا بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين، وأصله : تطهروا، فأدغم التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل. وقرىء : فاطْهروا بسكون الطاء، والهاء مكسورة من أطهر رباعياً، أي : فأطهروا أبدانكم، والهمزة فيه للتعدية.
﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا ﴾ تقدّم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء، إلا أنّ في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء. وفي لفظه : منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه، وهذا مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك : إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد، والأمر بالمسح، أنه لو يممه غيره، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمرّ يده عليه، أو لم يمر، أو ضرب ثوباً فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه، أنّ ذلك لا يجزئه. وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٠
﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ أي من تضييق، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء. والإرادة صفة ذات، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج، ووجود التطهير، وإتمام النعمة. وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله :﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ فأغنى عن إعادته. ومن زعم أنّ مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام، جعل زيادة من في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام، وإن لم يكن النفي واقعاً على فعل الحرج، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث "دين الله يسر" وبعثت بالحنيفية السمحة" وجاء لفظ الدين بالعموم، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم.
﴿وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ أي بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء. وفي الحديث :"التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج". وقال الجمهور : المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث. وقيل : المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، كما جاء في مسلم :﴿ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُا أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَـاهُ حُطَـامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ﴾ إلى آخر الحديث. وقيل : المعنى ليطهركم عن التمرّد عن الطاعة. وقرأ ابن المسيب : ليطهرْكم بإسكان الطاء وتخفيف الهاء.
﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكُمْ﴾ أي وليتم برخصة العامة عليكم بعزائمه. وقيل : الكلام متعلق بما دل عليه أوّل السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح، ثم قال بعد كيفية الوضوء : ويتم نعمته عليكم، أي النعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين. وقيل : تبيين الشرائع وأحكامها، فيكون مؤكداً لقوله :﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى﴾ وقيل : بغفران ذنوبهم. وفي الخبر :﴿حَسَرَاتٍ عَلَيْهِم وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم.
٤٣٩


الصفحة التالية
Icon