وآمنتم برسلي، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤا به عن الله تعالى. وقدّم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفاً لهما، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله : ابن عطية. وقال أبو عبد الله الرازي : كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا مكذبين بعض الرسل، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصاً. وقرأ الحسن : برسلي بسكون السين في جميع القرآن، وعزرتموهم. وقرأ عاصم الجحدري : وعزرتموهم خفيفة الزاي. وقرأ في الفتح :﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ فتح التاء وسكون العين وضم الزاي، ومصدره العزر. وأقرضتم الله قرضاً حسناً : إيتاء الزكاة هو في الواجب، وهذا القرض هو في المندوب. ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفاً وتعظيماً لموقعها من النفع المتعدي. قال الفراء : ولو جاء إقراضاً لكان صواباً، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى :
٤٤٤
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ لم يقل بتقبيل ولا إنباتاً انتهى. وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله، وبالنفقة على الأهل، وبالزكاة. وفيه بعد، لأنه تكرار. ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى، وأما لأنه عن طيب نفس. لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات : رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيآت، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب، وإدخال الجنات، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَالِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ﴾ أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم. وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد، وهو الذي شرعه الله. وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالاً عن الطريق المستقيم، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة.
﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ﴾ تقدم الكلام على مثل هذه الجملة.
﴿لَعَنَّـاهُمْ﴾ أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمة قاله : عطاء والزجاج. أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال :﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ﴾ أي نمسخهم كما مسخناهم قاله : الحسن، ومقاتل. أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله : ابن عباس. وقال قتادة : نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض.
﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ قال ابن عباس : جافية جافة. وقيل : غليظة لا تلين. وقيل : منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب. وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير. وقرأ الجمهور من السبعة : قاسية اسم فاعل من قسا يقسو. وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي : قسية بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد. وقال قوم : هذه القراءة ليست من معنى القسوة، وإنما هي كالقسية من الدراهم، وهي التي خالطها غش وتدليس، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد. قال أبو زبيد الطائي :
لهم صواهل في صم السلاح كماصاح القسيات في أيدي الصياريف
وقال آخر :
فما زادوني غير سحق عمامةوخمس ميء فيها قسي وزائف
قال الفارسي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب. وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم : درهم قسي، وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة. والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى. وقال المبرد : سمى الدرهم الزائف قسييًّا لشدته بالغش الذي فيه، وهو يرجع إلى المعنى الأول، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى. وقول المبرد : مخالف لقول الفارسي، لأن المعهود جعله عربياً من القسوة، والفارسي جعله معرباً دخيلاً في كلام العرب وليس من ألفاظها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
وقرأ الهيصم بن شراح : قسية بضم القاف وتشديد الياء، كحنى. وقرىء بكسر القاف اتباعاً. وقال الزمخشري : خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. وأما أهل السنة فيقولون : إن الله خلق القسوة في قلوبهم.
﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِا﴾ أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره، وقالوا : التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن. ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم ؟ وقال مقاتل : تحريفهم
٤٤٥


الصفحة التالية
Icon