منزلتكم منه فوق منزلة البشر لما عذبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم، وهذا على أنّ العذاب هو في الآخرة. ويحتمل أن يريد به العذاب في الدّنيا بمسخ آبائهم على تعديهم في السبت، وبقتل أنفسهم على عبادة العجل، وبالتيه على امتناعهم من قتال الجبارين، وبافتضاح من أذنب منهم بأن يصبح مكتوباً على بابه ذنبه وعقوبته عليه فتنفذ فيهم، والإلزام بكلا التعذيبين صحيح. أما الأول فلإقرارهم أن ذلك سيقع، وأما الآخر فلوقوع ذلك فيما مضى لا يمكن إنكار شيء منه. والاحتجاج بما وقع أقوى. وخرَّج الزمخشري التعذيبين : الدنيوي، والأخراوي في كلامه، وأشرب تفسير الآية بشيء من مذهبه الاعتزالي، وحرف التركيب القرآني على عادته، فقال : إن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه، فلم تذنبون وتعذبون بذنوبكم فتمسخون، وتمسكم النار في أيام معدودات على زعمكم ؟ ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين للقبائح، ولا مستوجبين للعذاب. ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، ولما عاقبكم انتهى. ويظهر من قوله : ولو كنتم أحباءه لما عصيتموه، أن يكون أحباؤه جمع حبيب بمعنى محب، لأن المحب لا يعصي من يحبه، بخلاف المحبوب فإنه كثيراً ما يعصي محبه. وقال القشيري : البنوّت تقتضي المحبة، والحق منزه عنها، والمحبة التي بين المتجانسين تقتضي الاختلاط والمؤانسة، والحق مقدس عن ذلك، والمخلوق لا يصلح أن يكون بعضاً للقديم، والقديم لا بعض له، لأن الأحدية حقه، وإذا لم يكن له عدد لم يجز أن يكون له ولد، وإذا لم يكن له ولد لم يجز على الوجه الذي اعتقدوه أن بينهم وبينه محبة.
﴿بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾ أضرب عن الاستدلال من غير إبطال له إلى استدلاله آخر من ثبوت كونهم بشراً من بعض من خلق، فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة. فإنّ القديم لا يلد بشراً، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوجهين البنوة، وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله، فبطل الوصفان اللذان ادعوهما.
﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ﴾ أي يهديه للإيمان فيغفر له.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أي يورطه في الكفر فيعذبه، أو يغقر لمن يشاء وهم أهل الطاعة، ويعذب من يشاء وهم العصاة. قاله الزمخشري. وفيه شيء من دسيسة الاعتزال، لأنّ من العصاة عندنا من لا يعذبه الله تعالى بل يغفر له. وقيل : المعنى أنه ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له، أو يمنعه أن يعذبه، ولذلك عقبه بقوله :
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ فله التصرف التام يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه.
﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي الرجوع بالحشر والمعاد.
﴿الْمَصِيرُ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَآءَنَا مِنا بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ﴾ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلّم. وقيل : المخاطب بأهل الكتاب هنا هم اليهود خاصة، ويرجحه ما روي في سبب النزول : وأن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب قالوا : يا معشر اليهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله. ويبين لكم أي يوضح لكم ويظهر. ويحتمل أن يكون مفعول يبين حذف اختصار، أو يكون هو المذكور في الآية. قبل هذا، أي : يبين لكم ما كنتم تخفون، أو يكون دل عليه معنى الكلام أي : شرائع الدين. أو حذف اقتصاراً واكتفاء بذكر التبيين مسنداً إلى الفاعل، دون أن يقصد تعلقه بمفعول، والمعنى : يكون منه التبيين والإيضاح. ويبين لكم هنا وفي الآية قبل في موضع نصب على الحال. وعلى فترة
٤٥١
متعلق بجاءكم، أو في موضع نصب على الحال، والمعنى : على فتور وانقطاع من إرسال الرسل.