والمراد بالرّب هنا هو الله تعالى. وذكر النقاش عن بعض المفسرين هنا أن المراد بالرّب هارون، لأنه كان أسن من موسى، وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا : اذهب أنت وكبيرك. وهو تأويل بعيد يخلص بني إسرائيل من الكفر. وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بالضمير المنفصل، وقد تقدّم الكلام على ذلك في قوله :﴿اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ ورددنا قول من ذهب إلى أنه مرفوع على فعل أمر محذوف يمكن رفعه الظاهر، فيكون من عطف الجمل التقدير : فاذهب وليذهب ربك. وذهب بعض الناس إلى أن الواو واو الحال، وربك مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف. أو تكون الجملة دعاء والتقدير فيهما : وربك يعينك، وهذا التأويل فاسد بقوله فقاتلا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
﴿إِنَّا هَـاهُنَا قَـاعِدُونَ﴾ هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال، ولا على الرجوع من حيث جاءوا، بل أقاموا حيث كانت المحاورة بين موسى وبينهم. وها من قوله هاهنا للتنبيه، وهنا ظرف مكان للقريب، والعامل فيه قاعدون. ويجوز في مثل هذا التركيب أن يكون الخبر الظرف وما بعده حال فينتصب، وأن يكون الخبر الاسم والظرف معمول له. وهو أفصح.
﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِى وَأَخِى ﴾ لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق
٤٥٦
معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله والشكوى إليه، ورقة القلب التي تستجلب الرّحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب :﴿إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ﴾ وعن علي أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال المنافقين فما أجابه إلا رجلان، فتنفس الصعداء ودعا لهما وقال : أين تتبعان مما أريد ؟ والظاهر إنّ وأخي معطوف على نفسي، ويحتمل أن يكون وأخي مرفوعاً بالابتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : وأخي لا يملك إلا نفسه، فيكون قد عطف جملة غير مؤكدة على جملة مؤكدة، أو منصوباً عطفاً على اسم إنّ أي : وإن أخي لا يملك إلا نفسه، والخبر محذوف، ويكون قد عطف الاسم والخبر على الخبر نحو : إن زيداً قائم وعمراً شاخص، أي : وإنّ عمراً شاخص. وأجاز ابن عطية والزمخشري أن يكون وأخي مرفوعاً عطفاً على الضمير المستكن في أملك، وأجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور. ويلزم من ذلك أنّ موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان الأنفس موسى فقط، وليس المعنى على ذلك، بل الظاهر أنّ موسى يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط. وجوز أيضاً أن يكون مجروراً معطوفاً على ياء المتكلم في نفسي، وهو ضعيف على رأي البصريين. وكأنه في هذا الحصر لم يثق بالرجلين اللذين قالا : ادخلوا عليهم الباب، ولم يطمئن إلى ثباتهما لما عاين من أحوال قومه وتلونهم مع طول الصحبة، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في ثباته. قيل : أو قال ذلك على سبيل الضجر عندما سمع منهم تعليلاً لمن يوافقه، أو أراد بقوله : وأخي، من يوافقني في الدين لا هارون خاصة. وقرأ الحسن : إلا نفسي وأخي بفتح الياء فيهما.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
﴿فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ ظاهره أنه دعا بأن يفرق الله بينهما وبينهم بأن يفقد وجوههم ولا يشاهد صورهم إذا كانوا عاصين له مخالفين أمر الله تعالى، ولذلك نبه على العلة الموجبة للتفرقة بينهم وبين الفسق فالمطيع لا يريد صحبة الفاسق ولا يؤثرها لئلا يصيبه بالصحبة ما يصيبه، ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ ﴿يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ﴾ وقبل الله دعاءه فلم يكونا معهم في التيه، بل فرق بينه وبينهم، لأن التيه كان عقاباً خص به الفاسقون العاصون. وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما : المعنى فافصل بيننا بحكم يزيل هذا الاختلاف ويلمّ الشعث. وقيل : المعنى فافرق بيننا وبينهم في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق. وقال الزمخشري : فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم، ولذلك وصل به قوله : فإنها محرمة عليهم، على وجه التشبيه. وقرأ عبيد بن عمير ويوسف بن داود : فافرِق بكسر الراء وقال الراجز :
يا رب فافرق بينه وبينيأشدّ ما فرّقت بين اثنين
وقرأ ابن السميقع : ففرق. والفاسقون هنا قال ابن عباس : العاصون. وقال ابن زيد : الكاذبون. وقال أبو عبيد : الكافرون.
﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِم أَرْبَعِينَ سَنَةًا يَتِيهُونَ فِى الارْضِ﴾ أي قال الله
٤٥٧


الصفحة التالية
Icon