وفي قوله : يحاربون الله ورسوله، تغليظ شديد لأمر فساداً لأمر الحرابة، والسعي في الأرض فساداً يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم، أو يضيفون فساداً إلى المحاربة. وانتصب فساداً على أنه مفعول له، أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى يسعون في الأرض معناه : يفسدون، لمّا كان السعي للفساد جعل فساداً. أي : إفساداً. والظاهر في قوله : العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب على قدّمناها، وبه قال : النخعي، والحسن، في رواية وابن المسيب، ومجاهد، وعطاء، وهو : مذهب مالك، وجماعة. وقال مالك : استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب، ولا سيما : أن لم يكن ذا شرور معروفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقال ابن عباس، وأبو مجلز، وقتادة، والحسن أيضاً وجماعة : لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب، فمن قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف، ومن أخاف فقط فالنفي، ومن جمعها قتل وصلب. والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا، فقال : أبو حنيفة، ومحمد، والشافعي، وجماعة، وروي عن مالك : يصلب حياً ويطعن حتى يموت. وقال جماعة : يقتل ثم يصلب نكالاً لغيره، وهو قول الشافعي. والقتل إما ضرباً بالسيف للعنق، وقيل : ضرباً بالسيف أو طعناً بالرمح أو الخنجر، ولا يشترط في قتله مكافأة لمن قتل. وقال الشافعي : تعتبر فيه المكافأة في القصاص. ومدة الصلب يوم أو ثلاثة أيام، أو حتى يسيل صديده، أو مقدار ما يستبين صلبه. وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ، والرجل الشمال من المفصل. وروي عن علي : أنه من الأصابع ويبقى الكف، ومن نصف القدم ويبقى العقب. وهذا خلاف الظاهر، لأن الأصابع لا تسمى يثداً، ونصف الرجل لا يسمى رجلاً. وقال مالك : قليل المال وكثيرة سواء، فيقطع المحارب إذا أخذه. وقال أصحاب الرأي والشافعي لا يقطع إلا من أخذ ما يقطع فيه السارق. وأما النفي فقال السدي : هو أن يطالب أبداً بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإسلام. وروي عن ابن عباس وأنس : نفيه أن يطلب، وروي ذلك عن الليث ومالك، إلا أن مالكاً قال : لا يضطر مسلم إلى دخول دار الشرك. وقال
٤٧٠
ابن جبير، وقتادة، والربيع بن أنس، والزهري، والضحاك : النفي من دار الإسلام إلى دار الشرك. وقال عمر بن عبد العزيز وجماعة : ينفى من بلد إلى غيره مما هو قاص بعيد. وقال أبو الزناد : كان النفي قديماً إلى دهلك وناصع، وهما من أقصى اليمن. وقال الزمخشري : دهلك في أقصى تهامة، وناصع من بلاد الحبشة. وقال أبو حنيفة : النفي السجن، وذلك إخراجه من الأرض. قال الشاعر : قال ذلك وهو مسجون :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلهافلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجةعجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الرؤيا بحل حديثناآذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
والظاهر أن نفيه من الأرض هو إخراجه من الأرض التي حارب فيها إن كانت الألف واللام للعهد فينفى من ذلك العمل، وإن كانت للجنس فلا يزال يطلب ويزعج وهو هارب، فزع إلى أن يلحق بغير عمل الإسلام. وصريح مذهب مالك أنه إذا كان مخوف الجانب غرب وسجن حيث غرّب، والتشديد في أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع قراءة الجمهور، وهو للتكثير بالنسبة إلى الذين يوقع بهم الفعل، والتخفيف في ثلاثتها قراءة الحسن ومجاهد وابن محيصن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٩
﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا ﴾ ي ذلك الجزاء من القطع والقتل والصلب والنفي. والخزي هنا الهوان والذل والافتضاح. والخزي الحياء عبر به عن الافتضاح لما كان سبباً له افتضح فاستحيا.
﴿وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ ظاهره أن معصية الحرابة مخالفة للمعاصي غيرها، إذ جمع فيها بين العقاب في الدنيا والعقاب في الآخرة تغليظاً لذنب الحرابة، وهو مخالف لظاهر قوله صلى الله عليه وسلّم في حديث عبادة "فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له" ويحتمل أن يكون ذلك على حسب التوزيع، فيكون الخزي في الدنيا إن عوقب، والعقاب في الآخرة إنْ سلم في الدنيا من العقاب، فتجري معصية الحرابة مجرى سائر المعاصي. وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب، ولكنْ في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد.


الصفحة التالية
Icon