وقرأ الجمهور : والسارق والسارقة بالرفع. وقرأ عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم، وقال الخفاف : وجدت في محصف أبيّ والسُّرق والسرقة بضم السين المشددة فيهما كذا ضبطه أبو عمرو. قال ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط، لأن قراءة الجماعة إذا كتبت السارق بغير ألف وافقت في الخط هذه. والرفع في والسارق والسارقة على الابتداء، والخبر محذوف والتقدير : فيما يتلى عليكم، أو فيما فرض عليكم، السارق والسارقة أي : حكمهما. ولا يجوز سيبويه أن يكون الخبر قوله : فاقطعوا، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر مبتدأ موصول بظرف أو مجرور، أي جملة صالحة لأداة الشرط. والموصول هنا ألْ، وصلتها اسم فاعل أو اسم مفعول، وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه. وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني : أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ، والخبر جملة الأمر، أجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور، لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه : الذي سرق والتي سرقت. ولما كان مذهب سيبويه أنه لا يجوز ذلك، تأوله على إضمار الخبر فيصير تأوله : فيما فرض عليكم حكم السارق والسارقة. جملة ظاهرها أن تكون مستقلة، ولكن المقصود هو في قوله : فاقطعوا، فجيء بالفاء رابطة للجملة الثانية، فالأولى موضحة للحكم المبهم في الجملة الأولى. وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي عبلة : والسارقَ والسارقة بالنصب على الاشتغال. قال سيبويه : الوجه في كلام العرب النصب كما تقول : زيداً فاضربه، ولكنْ أبت العامة إلا الرفع، يعني عامة القراء وجلهم. ولما كان معظم القراء على الرفع، تأوله سيبويه على وجه يصح، وهو أنه جعله مبتدأ، والخبر محذوف، لأنه لو جعله مبتدأ والخبر فاقطعوا لكان تخريجاً على غير الوجه في كلام العرب، ولكان قد تدخل الفاء في خبر أل وهو لا يجوز عنده. وقد تجاسر أبو عبد الله محمد بن عمر المدعو بالفخر الرازي بن خطيب الري على سيبويه وقال عنه ما لم يقله فقال : الذي ذهب إليه سيبويه ليس بشيء، ويدل على فساده وجوه : الأول : أنه طعن في القراءة
٤٧٦
المنقولة بالمتواتر عن الرسول، وعن أعلام الأمة، وذلك باطل قطعاً. (قلت) : هذا تقول على سيبويه، وقلة فهم عنه، ولم يطعن سيبويه على قراءة الرفع، بل وجهها التوجيه المذكور، وأفهم أنّ المسألة ليست من باب الاشتغال المبني على جواز الاتبداء فيه، وكون جملة الأمر خبره، أو لم ينصب الاسم، إذ لو كانت منه لكان النصب أوجه كما كان في زيداً أضربه على ما تقرر في كلام العرب، فكون جمهور القراء عدلوا إلى الرفع دليل على أنهم لم يجعلوا الرفع فيه على الابتداء المخبر عنه بفعل الأمر، لأنه لا يجوز ذلك لأجل الفاء. فقوله : أبت العامة إلا الرفع تقوية لتخريجه، وتوهين للنصب على الاشتغال المرجح على الابتداء في مثل هذا التركيب لا يجوز، إلا إذا جاز أن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالفعل الذي يفسر العامل في الاشتغال، وهنا لا يجوز ذلك لأجل الفاء الداخلة على الخبر، فكان ينبغي أن لا يجوز النصب. فمعنى كلام سيبويه يقوي الرفع على ما ذكر، فكيف يكون طاعناً في الرفع ؟ وقد قال سيبويه : وقد يحسن ويستقيم : عبد الله فاضربه، إذا كان مبنياً على مبتدأ مضمر أو مظهر، فأما في المظهر فقولك : هذا زيد فاضربه، وإن شئت لم تظهر هذا ويعمل عمله إذا كان مظهراً وذلك قولك : الهلال والله فانظر إليه، فكأنك قلت : هذا الهلال ثم جئت بالأمر. ومن ذلك قول الشاعر :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقائلة خولان فانكح فتاتهمواكرومة الحيين خلو كما هيا
هكذا سمع من العرب تنشده انتهى. فإذا كان سيبويه يقول : وقد يحسن ويستقيم. عبد الله فاضربه، فكيف يكون طاعناً في الرفع، وهو يقول : أنه يحسن ويستقيم ؟ لكنه جوزه على أنّ يكون المرفوع مبتدأ محذوف الخبر، كما تأوله في السارق والسارقة، أو خبر مبتدأ محذوف كقوله : الهلال والله فانظر إليه.
وقال الفخر الرازي :(فإن قلت) : ـ يعني سيبويه ـ لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول : القراءة بالنصب أولى، فنقول له : هذا أيضاً رديء، لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر مردود. (قلت) : هذا السؤال لم يقله سيبويه، ولا هو ممن يقوله، وكيف يقوله وهو قد رجح قراءة الرفع على ما أوضحناه ؟ وأيضاً فقوله : لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين تشنيع، وإيهام أن عيسى بن عمر قرأها من قبل نفسه، وليس كذلك، بل قراءته مستندة إلى
٤٧٧


الصفحة التالية
Icon