الأرض فساداً، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض. ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم. ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا، وفي ﴿يَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ﴾ ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال :﴿أَجْمَعِينَ * وَيَـا ـاَادَمُ اسْكُنْ﴾ و﴿قِيلَ يَـانُوحُ اهْبِطْ﴾ ﴿أَن يَـا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ﴾ ﴿قَالَ يَـامُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ﴾ ﴿وَيُثْبِتُا وَعِندَهُا أُمُّ الْكِتَـابِ﴾. وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، هم اليهود المنافقون، وسماعون للكذب هم اليهود. والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله، فإنّ ناصرك عليهم ويقال : أسرع فيه السبب، وأسرع فيه الفساد، إذا وقع فيه سريعاً. ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه. أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي : هم سماعون، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود. ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين، وانتصابه على الذم نحو قوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
أقارع عوف لا أحاول غيرهاوجوه قرود تبتغي من تخادع
ويجوز أن يكون :﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾ استئنافاً، وسماعون مبتدأ وهم اليهود، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولون بأفواههم : نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلّم وغير ذلك مما ينكرونه. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا ﴿وَمَآ أُوالَئاِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ ويجيء على هذا التأويل قوله : من الذين قالوا كأنه قال : ومنهم، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى. وهو احتمال بعيد متكلف، وسماعون من صفات المبالغة، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله، ويكون المعنى : إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك، وينقلون حديثك، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً. وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله : سماعون، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم : الملك يسمع كلام فلان، ومنه "سمع الله لمن حمده" وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً. وقرأ السلمي : يسرعون بغير ألف من أسرع. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر : للكذب بكسر الكاف وسكون الذال. وقرأ زيد بن عليّ : الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب، نحو صبور وصبر، أي : سماعون للكذب الكذب.
﴿سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ﴾ فيحتمل أن يكون المعنى : سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم، والذين لم يأتوه يهود فدك. وقيل : يهود خيبر. وقيل : أهل الرأبين. وقيل : أهل الخصام في القتل والدية. ويحتمل أن يكون المعنى : سماعون لأجل قوم آخرين، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون، ويهود المدينة. وقيل : السماعون بنو قريظة، والقوم الآخرون يهود خيبر. وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله ؟ فقال : نعم. وتلا هذه الآية
٤٨٧
سماعون لقوم آخرين، لم يأتوك : صفة لقوم آخرين. ومعنى لم يأتوك : لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء، فعلى هذا الظاهر أن المعنى : هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥


الصفحة التالية
Icon