﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنا بَعْدِ مَوَاضِعِهِا﴾ قرىء الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي : يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها. قال ابن عباس والجمهور : هي حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم أي : وضعوا الجلد مكان الرجم. وقال الحسن : يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه. وقيل : بإخفاء صفة الرسول. وقيل : بإسقاط القود بعد استحقاقه. وقيل : بسوء التأويل. قال الطبري : المعنى يحرفون حكم الكلام، فحذف للعلم به انتهى. ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله. ومعنى من بعد مواضعه : قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه.
﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ﴾ الإشارة بهذا قيل : إلى التحميم والجلد في الزنا. وقيل : إلى قبول الدية في أمر القتل. وقيل : على إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول. وقال الزمخشري : إن أوتيتم، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق، واعملوا به انتهى. وهو راجع لواحد مما ذكرناه، والفاعل المحذوف هو الرسول أي : إن أتاكم الرسول هذا.
﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ﴾ أي : وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال. وقيل : فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد. وقيل : أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. وقيل : فاحذروا أن تسألوه بعدها، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله : فخذوه. فالمعنى : وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله.
﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَه فَلَن تَمْلِكَ لَه مِنَ اللَّهِ شَيْـاًا ﴾ قال الحسن وقتادة : فتنته أي عذابه بالنار. ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون. وقال الزجاج : فضيحته. وقيل : اختباره لما يظهر به أمره. وقيل : إهلاكه. وقال ابن عباس ومجاهد : كفره وإضلاله، يقال : فتنه عن دينه صرفه عنه، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه. وقال الزمخشري : ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى. وهذا على طريقة الاعتزال. وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر. وقطعاً لرجائه من فلاحهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
﴿أُوالَئاِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ أي سبق لهم في علم الله ذلك، وأن يكونوا مدنسين بالكفر. وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة. وقال الزمخشري : أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يظهر به قلوبهم، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها. إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي.
﴿لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ﴾ أي ذل وفضيحة. فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته. وقال مقاتل : خزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي بني النضير بإجلائهم.
﴿وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له، أو لتزايد ألمه أو لهما.
﴿سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ قال الحسن : يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان : هم اليهود ويسمعون الكذب، وهو قول بعضهم
٤٨٨
لبعض : محمد كاذب ليس بنبي، وليس في التوراة الرجم، وهم يعلمون كذبهم. وقيل : الكذب هنا شهادة الزور انتهى. وهذا الصوف إن كان قوله أوّلاً : سماعون للكذب، وصفاً لبني إسرائيل.
وتقدم أن السحت المال الحرام. واختلف في المراد به هنا، فعن ابن مسعود : أنه الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن الكلب، والنرد، والخمر، والخنزير، والميتة، والدم، وعسب الفحل، وأجرة النائحة والمغنية، والساحر، وأجر مصوّر التماثيل، وهدية الشفاعة. قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق : أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت. وعن الحسن : أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت. وقيل لعبد الله : كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا، قال : ذلك كفر، قال تعالى :﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوالَئاِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ﴾. وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم يعزل، وفي الحديث :﴿لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا﴾ وقال علي وأبو هريرة : كسب الحجاج سحت، يعني أنه يذهب المروءة، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه.


الصفحة التالية
Icon