قيل : ويحتمل أن يكون في وقت الذين في قلوبهم مرض يقولون :﴿نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ وعندما ظهر سؤالهم في أمر بني قينقاع وسؤال عبد الله بن أبي فيهم، ونزل الرسول إياهم له، وإظهار عبد الله أن خشية الدوائر هي خوفه على المدينة ومن بها من المؤمنين، وقد علم كل مؤمن أنه كاذب في ذلك، فكان فعله ذلك موطناً أن يقول المؤمنون ذلك. وأما قراءة ويقول بالنصب، فوجهت على أنّ هذا القول لم يكن إلا عند الفتح، وأنه محمول على المعنى، فهو معطوف على أن يأتي، إذ معنى : فعسى الله أن يأتي، معنى فعسى أن يأتي الله، وهذا الذي يسميه النحويون العطف على التوهم، يكون الكلام في قالب فيقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أن يعطف ضمير اسم الله ولا شيء منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف أي : ويقول الذين آمنوا به، أي بالله. فهذا الضمير يصح به الربط، أو هو معطوف على أن يأتي على أن يكون أن يأتي بدلاً من اسم الله لا خبراً، فتكون عسى إذ ذاك تامة لا ناقصة، كأنك قلت : عسى
٥٠٩
أن يأتي، ويقول : أو معطوف على فيصبحوا، على أن يكون قوله : فيصبحوا منصوباً بإضمار أن جواباً لعسى، إذ فيها معنى التمني. وقد ذكرنا أنّ في هذا الوجه نظر، وهوهل تجري عسى في الترجي مجرى ليت في التمني ؟ أم لا تجري ؟ وذكر هذا الوجه ابن عطية عن أبي يعلى، وتبعه ابن الحاجب، ولم يذكر ابن الحاجب غيره. وعسى من الله واجبة فلا ترجى فيها، وكلا الوجهين قبله تخريج أبي عليّ. وخرجه النحاس على أن يكون معطوفاً على قوله :﴿بِالْفَتْحِ﴾ بأن يفتح، ويقول : ولا يصحّ هذا لأنه قد فصل بينهما بقوله : أو أمر من عنده، وحقه أن يكون لغة لأن المصدر ينحل لأن والفعل، فالمعطوف عليه من تمامه، فلا يفصل بينهما. وهذا إن سلم أنّ الفتح مصدر، فيحل لأن والفعل. والظاهر أنه لا يراد به ذلك، بل هو كقولك : يعجبني من زيد ذكاؤه وفهمه، لا يراد به انحلاله، لأن والفعل وعلى تقدير ذلك فلا يصح أيضاً، لأن المعنى ليس على : فعسى الله أن يأتي، بأن يقول الذين آمنوا كذا. ولأنه يلزم من ذلك الفصل بين المتعاطفين بقوله :﴿فَيُصْبِحُوا ﴾ وهو أجنبي من المتعاطفين، لأن ظاهر فيصبحوا أن يكون معطوفاً على أن يأتي، ونظيره قولك : هند الفاسقة أراد زيد إذايتها بضرب أو حبس وإصباحها ذليلة، وقول أصحابه : أهذه الفاسقة التي زعمت أنها عفيفة ؟ فيكون وقول معطوفاً على بضرب. وقال ابن عطية : عندي في منع جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الذين نصرهم يقولون : ننصره بإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك انتهى. وهذا الذي قاله راجع إلى أن يصير سبباً لأنه صار في الجملة ضمير عائد على الله، وهو تقديره بنصره وإظهار دينه، وإذا كان كذلك فلا خلاف في الجواز. وإنما منعوا حيث لا يكون رابط وانتصاب جهد على أنه مصدر مؤكد، والمعنى : أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الإيمان أنهم معكم ؟ ثم ظهر الآن من موالاتهم اليهود ما أكذبهم في أيمانهم. ويجوز أن ينتصب على الحال، كما جوّزوا في فعلته جهدك وقوله : إنهم لمعكم، حكاية لمعنى القسم لا للفظهم، إذ لو كان لفظهم لكان إنا لمعكم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٥
﴿حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَـاسِرِينَ﴾ ظاهره أنه من جملة ما يقوله المؤمنون اعتماداً في الأخبار على ما حصل في اعتقادهم أي : بطلت أعمالهم إن كانوا يتكلفونها في رأي العين. قال الزمخشري : وفيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ويحتمل أن يكون إخباراً من الله تعالى، ويحتمل أن لا يكون خبراً بل دعاء إما من الله تعالى، وإما من المؤمنين. وحبط العمل هنا هو على معنى التشبيه، وإلا فلا عمل له في الحقيقة فيحبط وجوز الحوفي أن يكون حبطت أعمالهم خبراً ثانياً عن هؤلاء، والخبر الأول هو قوله الذين أقسموا، وأن يكون الذين، صفة لهؤلاء، ويكون حبطت هو الخبر. وقد تقدم ذكر قراءة أبي واقد والجراح حبطت بفتح الباء وأنها لغة.
﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِا فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُا﴾ وابن كعب والضحاك الحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم : نزلت خطاباً
٥١٠
للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة. ومن يرتد جملة شرطية مستقلة، وهي إخبار عن الغيب.


الصفحة التالية
Icon